الحدث: على مدى حروب إسرائيل على غزة، تم تدمير هذه المدينة عدة مرات، ودأبنا على وصف دوافع هذا التدمير وفق قواميسنا الخاصة، تارة نقول.. إنه الحقد الأعمى، وتارة أخرى إنه الانتقام، ودائما الحاق أكبر قدر ممكن من الأذى بالفلسطينيين وممتلكاتهم.
وفي هذا التدمير المنهجي وواسع النطاق يكمن عنصر سياسي سيكون هو الأهم في الأيام القادمة.
وهذه الحرب المتواصلة لما يزيد عن شهر ونصف الشهر، بلغ فيها الدمار حجما تجاوز كل ما سبقه، وبعد الافصاحات الأخيرة عما سيأتي، حيث الأبراج العالية ربما تكون هدفا مباشرا، فإن لهذا الدمار الدور الأساسي في المعادلة، بعد أن تضع الحرب العسكرية أوزارها، إذ سيتوقف الحديث عن الأنفاق والصواريخ وقذائف الهاون، ليعلوا الحديث عن إعادة إعمار غزة ورفع الحصار عنها، وتدرك إسرائيل أنها حين ترتاح من الإزعاج العسكري، فينتقل زمام المبادرة إلى يدها في أمر رفع الحصار وإعادة الإعمار، وهذان العنصران متلازمان في السياسة والمنطق، فلا إعادة إعمار فعالة دون رفع الحصار، والمقصود هنا؛ المعابر الحدودية مع إسرائيل في المقام الأول، وفي أي تسوية محتملة، سنقرأ نصا صريحا يقضي بفتح المعابر، مع نص ينطوي على بعض الغموض، وهو إعادة الإعمار، ويبدو منطقيا، أنه حين يكون حجم الدمار هائلا إلى هذا الحد مع احتمال أن يتسع ربما، فإن التفكير الإسرائيلي المعلن يتجه نحو استغلال هذه الحاجة الشعبية الجماعية، من أجل تطوير امكانات التحكم بغزة، ما دام الجزء الأكبر من السلع والمعدات، مع بعض حركة للأفراد، لابد وأن يمر عبر المعابر الإسرائيلية، وكلما اتسعت مساحة الدمار يتضاعف وقت إعادة الاعمار، فالأمر لن يكون مقتصرا على كم الأموال التي سيتم جمعها في مؤتمر "النرويج – مصر" وإنما آليات دخول الأموال والمعدات ومواد الاعمار من خلال هذه المعابر.
ومنذ بداية هذه الحرب لاحظنا أن إسرائيل غيرت عناوينها وأهدافها، فتراجعت عن اجتثاث الخطر العسكري في غزة، إلى جزئية تدمير الانفاق، ثم تراجعت عن هدف نزع سلاح غزة إلى اسكات هذا السلاح لا أكثر، ولعلها وبعد أن أدركت استحالة تحقيق الأهداف التي أعلنتها على مدار الحرب، صارت أكثر اعتمادا على المقايضة باللعب على ورقة أساسية وهي إعادة الاعمار، ويبدو أنها ترى في هذا الأمر أفضل وأنجع السبل لتحقيق أهدافها، إضافة إلى أنها ستجبر الفلسطينيين جميعا على حصر اهتمامهم في نكبة غزة، ما يضعف تحركهم الرئيسي بشأن حل عادل وشامل لقضيتهم الوطنية التي تعتبر غزة جزء منها وليس بديلا عنها.
لقد بدد هذا الدمار الكبير وأمام العالم بأسره مقولة إسرائيلية كان لها بعض قليل ممن يصدقها وهي أن تدمير المباني يتم لأغراض أمنية، فإذا بالحقائق الملموسة تؤكد أن الغرض الأمني هو آخر ما تفكر فيه القيادة الإسرائيلية في هذه الحرب الهمجية، فلو كان الهدف اصطياد أفراد وقيادات فلما إذا الانذار بالإخلاء قبل القصف؟
إننا في حقيقة الأمر نواجه واحدة من أقذر الحروب في التاريخ القديم والحديث، ذلك أن قطاع غزة، الذي تقل مساحته عن مساحة مدينة متوسطة في العالم، ويزيد عدد سكانه المحشورين في مدنه وقراه ومخيماته عن عدد سكان أكثر من دولة مستقلة في عالمنا، هذا القطاع استقبل من القدرة التدميرية الإسرائيلية ما لم يتصوره عقل، وحين نقرأ التفسيرات الإسرائيلية لهذه الحرب القذرة، والتي هي مكررة ومعادة، لابد وأن نتوصل إلى نتيجة واحدة، هي أن هذه الحرب خرجت عن نطاق قوانين الحروب وتقاليدها، ولقد أعجبني وصف أحد الكتاب الإسرائيليين لها حين وصفها "بالحرب العقارية".