مع تطور الأحداث في المنطقة العربية وخاصة في سوريا وما ينتج عنه من فرز شبه واضح بين الهوية الوطنية والهوية الدينية. يبرز على السطح، ومن جديد، السؤال الأساس في المجتمع الفلسطيني سؤال الهوية والتاريخ والانتماء. فرغم قناعاتي بأن هذا الموضوع بحاجة لدراسة معمقة وطويلة ولكنني سأحاول تواضعاً في هذه المقاله تسليط الضوء على بعض النقاط الهامة في السياق التاريخي والفكري المكون للشخصية الفلسطينية جوهر الإشكالية باعتقادي يكمن في غياب رواية واحدة للتاريخ الفلسطيني وما نتج عنه من روايات مختلفة للصراع الفلسطيني الصهيوني، وهذا بلا شك من أهم عوامل إضعاف حجم التأييد العالمي لحقوق شعبنا العادلة. ففي الجانب التاريخي المروي والمُدَرس في المناهج نرى اجتزاء وتخبطاً وتناقضاً في سرد الرواية التاريخية الأصيلة لشعبنا، ويجري التركيز دوماً على الرواية الدينية، والتي هي نقطة الضعف الرئيسية، ففي السنوات الأخيرة أصبح التركيز ينصب على الجانب الديني في الصراع وغابت الرواية الإنسانية عن الواجهة وخاصة بعد المحاولات الإسرائيلية في السيطرة وتقسيم المسجد الأقصى المبارك بالقدس. فالحق الديني في الأرض هو شيء نسبي وكل ديانة تؤمن بأن هذه الأرض مُلكها وهذا أمر لن يحسم إلا عند رب العالمين.
ومن هذا المنطلق فإن إظهار الهوية الدينية للصراع يشكل عامل إضعاف لمشروعية الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني كون الطابع التحرري الوطني يشمل كل المواطنين الفلسطينين ويحظى بقبول وتضامن عالمي أوسع.
ومن هنا فإن علينا أن نتفق على طبيعة هذا الصراع، أهو صراع ديني أم صراع وطني تحرري؟ وعندها سيسهّل ذلك من إيجاد عنوان وخارطة عمل للمستقبل.
بداية لا بد من الحسم من هو الشعب الفلسطيني، إذا اتفقنا هنا فلا بد أن نتفق بالنتيجة، وهي سيرة هذا الشعب ومطالبه بحقه في تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة، أما إذا لم نتفق فنحن بلا شك أمام مُعضلة كبيرة تُربك شبابنا وأجيالنا القادمة وتقوى الرواية الصهيونية القائلة بأن فلسطين أرض بلا شعب وُهبت لهم بعد ضياع وتُشرد لكونهم شعباً بلا أرض. وكما يقول المثل: "من فمك أُدينك"، وبما أن العالم كلهُ يُقر ويعترف بالكتاب المقدس وخاصة العهد القديم منهُ، واستناداً لذلك وللرواية التاريخية اليهودية المسجلة في هذا الكتاب والذي إلى يومنا هذا يعتبر الكتاب الأكثر مبيعاً واقتناء بالعالم، فعلينا البدء من هنا. فهذه الأرض، أي فلسطين حسب التوراة، كانت بلاداً مأهولة بالسكان، وهناك مجتمع لديه مستوى متطور من الزراعة والعَمار وغيره كما تشير روايات العهد القديم، ولم يكن من السهل غزو هذه الأرض من القبائل اليهودية لوجود مجتمع سكاني وكيان متماسك إلى حد كبير، ولهذا فاليهود حسب روايتهم نفسها لم يدخلوا إلى أرض خالية بلا شعب، وبلا شك فلهذا الشعب كانت لغة وعادات وديانات وآلهة كغيره من شعوب الأرض، ولاحقاً تمت سرقة هذا التاريخ كاللغة والعادات وتم نسبها إلى الشعب اليهودي حديث التكوين. وعلينا هنا أن نتفق هل هذا التاريخ الكنعاني بإرثه الثقافي والحضاري هو مُلكنا كشعب فلسطيني أم لا؟ الجواب أكيد نعم، ولذلك علينا أن نعي أن أسماء المدن الفلسطينية مثلاً والتي أوهمونا أنها عبرية، كشكيم وحبرون وغيرها، هي أسماء كنعانية فلسطينية قُح، وأسماء الأشخاص مثل ميخائيل وجبرائيل وعزرائيل هي أسماء كنعانية فلسطينية قُح نُسبت إلى آلهة الكنعانين إيل وليس لها علاقة بالديانة اليهودية. كذلك اللغة، فأساس اللغة العبرية هو اللغة الآرامية التي كانت متداولة بين سكان فلسطين قبل الغزو اليهودي الأول.
ولاحقاً تأتي الحقبة المسيحية، والتي كانت بمثابة ثورة على تسلط الكهنوت اليهودي على الشعب والظلم الواقع على سكان البلاد الأصليين الفلسطينين بكافة مكوناتهم. وأصبح هذا الدين الجديد، المسيحية، والذي بشر بهِ رسول فلسطيني الأصول أكبر وأهم دين على وجه الكرة الأرضية، وفي هذه الأيام خاصة تجد أن أغلب دول العالم تحتفل برمزية ميلاد هذا الرسول فلسطيني المنشأ ونحن في بلده الأصلي إما نخجل أو لا نعرف عنهُ شيئاً.
ولاحقاً طبعاً تتوالى الحقب وصولاً إلى الحقبة الإسلامية الأولى بدخول عمر بن الخطاب بيت المقدس، ولاحقاً دخول صلاح الدين وطرد الصلبيين إلى مراحل مُختلفة وصولاً إلى يومنا هذا.
إن المحور الرئيسي هنا هو الاتفاق على أن للشخصية الوطنية الفلسطينية مكونات ثلاث لا يمكن إغفال أي واحده منها، وهي الكنعاني والمسيحي والإسلامي. وهذه المكونات متكاملة هي التي تصنع التاريخ والهوية الفلسطينية ولا يمكن إغفال أو القفز عن أي مكون منها.
ولذلك علينا إعادة النظر في العديد من مكونات المناهج التعليمية وإبراز هذا التاريخ ليعرفهُ أبناؤنا إن كان ذلك في المعرفة الأولية باللغة الآرامية والديانة المسيحية ليعرف أبناؤنا أن لهذه الأرض تاريخاً وحضارة تعود لآلاف السنين.
إن التاريخ الحديث وحدهُ لا يكفي لصناعة هوية وانتماء، فالشخصية الفلسطينية الحديثة التي تكونت في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بتأثير المشروع الصهيوني، لم تأتِ من الفراغ. كما يحاول أن يصورها المُفكرون الصهاينة، بل هي امتداد لتاريخ طويل لهُ إرث وحضارة وتاريخ يعود لآلاف السنين، ورغم الهجرات من وإلى فلسطين عبر التاريخ إلا أن كل الدلائل تشير إلى الإرث الحضاري القديم للشعب الفلسطيني، وهذا ما يجب أن يعلمهُ أبناؤنا وشبابنا لخلق روح الانتماء الفلسطينية للهوية الوطنية.