ضوء في الدَّغْل
بمناسبة عيد ميلاد سميح القاسم الستِّين كتبَ له محمود درويش قائلا:
"بقيتَ أكثرنا فتوَّةً، فتًى في الستين، أو طفلا في الستين. ولكن قلْ لي: متى غافلتَ نفسكَ وغافلتنا وبلغتَ الستين؟ وهل يكبر الشعراء الذين لا مهنة لهم إلا تجديد شباب اللغة، وفتوَّة الأمل وصيانة الروح من الصدأ والملل؟(سميح القاسم، ملك أتلانتس وسربيات أخرى، ص:10).
لقد سبقك درويشُ إلى الآخرة يا سميح القاسم، لكنْ لو بقيَ بماذا كان يسألك وقد أنشدْتَ أغنية رحيلكَ بعيدا عن ضجيج العالم وتعبه، بعيدا عن وحشيَّة تتأصَّل في حضارتنا المعاصرة كل يوم أكثر مما كانتْ عليه. لكنَّ سؤاله وعجبه في محلّه تماما إذ لا يعقل أنْ يهرم الشعراء الذين منحوا أنفسهم لتجديد العالم وما فيه عن طريق تجديد رؤيتهم، ورؤية النَّاس، إليه. هكذا نتفلسف كلما فقدنا شاعرا كبيرا، فنتحدَّث عن كون عمْر الشعراء لا يقاس بالزمن البيولوجيِّ المتوزِّع على الساعات والأيام، بل بخلودٍ يجعل احترافية عمل الموت فيهم محاطة بالشكوك، لأنّ أعمالهم لن تموت، وأسماءهم ستظلُّ تلهج بها الشفاه في كل وقتٍ وحين. والحقيقة أننا نتفلسف من هول الفجيعة برحيلهم عنا وحضور غيابهم ليقيم طويلا بيننا، وإذ لا ينفع البكاء فقط أمامَ مصيبتنا؛ مصيبةِ الإنسان واللغة والثقافة والجمال، نتعلل بأقوالهم وما فيها من نشدان للبقاء وسخرية من النهاية الجسدية. نقول بأنَّهم كائناتُ خيال، أكبر من الجسد لأنَّه قليل عليهم، وأوسع من الفهم لأنَّ سقْفه أقصر من قاماتهم الشامخة، وأعمق من التفكير بأنّهم لن يعودوا، لأنّهم لا يرحلون أبدا، ولأنّ الأبد أحد معانيهم. وإذ نفعل هذا نعزي أنفسنا بما لا يسكت في القلب نيران الفقد، نأتي بكلام محمود درويش تارة:"هزمتْك يا موتُ الفنون جميعها"، والمتنبي تارة أخرى:"وما الدهر إلا من رواة قصائدي..."، وغيرهما بحسب الفاجعة وسياق الحزن. ولأنَّك يا سميح أنت الراحل هذه المرة سنعزي أنفسنا بكلامك:
"أنا لا أحبك يا موت لكنني لا أخافُكْ
وأعلمُ أنّي تضيق عليّ ضفافُكْ
وأعلمُ أن سريرك جسمي
وروحي لحافُكْ
أنا لا أحبك يا موت لكنني لا أخافُكْ".
سمعتُكَ تقرأ هذا المقطع مؤخَّرا في حوار خاص لقناة إعلامية عربية، وقد قلتَ قبل تلاوته أنك مصاب"بداء خبيث وصعب وابن حرام"، وأنّك مع ذلك تقاوِم رابطا نضالك ضد المرض من أجل الحياة بنضالك الوطنيّ وإيمانك بقضية الإنسان الفلسطينيّ؛ إيمانك بحرية الإنسان وكرامته وحقه في الهواء والأرض.
لا أخفيكَ أنني كلما رحلَ شاعر أشعر بأنَّ كائناتٍ دافئة كانتْ تقيم في داخلي وغادرت بموته ليحلَّ مكانها البرد. أشعر بهذا لأنَّ العالم بلا شعراء يصبح نهْبًا للوحشية والقبح، ولأنَّ العالم بالشعراء يتحوَّل إلى سماءٍ تسبح فيها قيم الخير والجمال والإنسانية.
لا أخفيكَ أنّك إذْ رحلْتَ هرعْتُ إلى مكتبتي وفتحتُ أعمالك الشعرية لأراكَ، أو ربما لأكذِّب هذا الخبر الذابح. ولكني في الحقيقة فتحتُ أشعارك وشرعتُ أقرأ تسابيحها لأودِّعك كما يليقُ بك، أعرف أنني لستُ وحدي من عاد إلى أشعارك بل كل محبيك؛ محبي الكلمة والفن، لذا تخيَّل مقدار الحناجر التي راحتْ، وهي تقرأ شعرك، تعلِّم النسيان أنها لن تنساك، وتعلِّم الموت أنَّه لم يأخذ منك غير الجسد، وتذكِّر أصحابَها أنهم عاصروا شاعرا كبيرا هو أنتَ.
وداعا سميح القاسم
وداعا لجسدك الذي غادرنا إلى حضن أمنا الأرض.
لكن لا يمكن لأحد أنْ يزعم بأنه سيودِّع روحك البهيَّة، لأنّك منذ بدأتَ الكتابة رحتَ تودِعها في دواوينك وأشعارك، وتبني لها بيتًا أبديًّا تقيمُ فيه بسلام وحبِّ.
فلتقِمْ بسلامٍ هناكَ، وستقيم في أرواحنا بسلامٍ هنا.
* شاعر وأكاديمي جزائريّ