يبدو أننا في المجتمع الفلسطيني قد اعتدنا على قبول رداءة الواقع السياسي حتى أصبح الخروج من هذا الواقع أشبه بالخيال، ولنبدأ بموضوع الانقسام الداخلي الذي تزداد سماكته يوماً بعد آخر وتصبح الحلول أصعب، وهناك عشرات الأمثلة على ذلك (معبر رفح، توزيع الأراضي، تحويلات المرضى وأوضاع المستشفيات...الخ) هذا استخلاص سيء تحيط به أوضاع أقليمية خطرة، تدفع بأولويات القضية الفلسطينية إلى الوراء، إضافة إلى الدور المنعدم للإدارة الأمريكية وانحيازها للعدوان الإسرائيلي وضعف الموقف الأوروبي.
مهمة إنهاء الانقسام الداخلي الفلسطيني هي مهمة الفلسطينيين الأولى، بمكوناتهم السياسية الشرعية والمعترف بها على كل الأصعدة، وليس مقبولاً أن يبقى الحل يراوح مكانه إلى أن يتقدم موقف عربي باقتراح من هنا أو هناك سرعان ما يتبخر وتتبخر آثاره، حتى تعود الأصوات الناعقة إلى أساليب الشتم والتحريض وكل يحمل الآخر مسؤولية ما يجري. أوضاع أهلنا في غزة لا تحتمل رفاهية المساجلات الإعلامية، وهي بحاجة إلى قيادة شجاعة تقدم حلولاً مقبولة وفي مستوى المخاطر الجدية التي تهدد المشروع الوطني بالهلاك!
الجانب الأخر من الحال الفلسطيني يتعلق بما يدور حولنا من حروب داخلية وتدخلات خارجية وصراعات سياسية لا تتورع عن استخدام الدين وسيلة للتحريض وشن حروب أو إقامة أحلاف تفوح منها رائحة الطائفية الكريهة.
ربما، ولاعتبارات سياسية، فإن القيادة السياسية غير قادرة على الاتفاق على موقف موحد تجاه ما يجري حولنا (سوريا والعراق أولاً، وأقطار أخرى بعيدة نسبياً مثل اليمن وليبيا)، وتجري محاولات لاستثمار قداسة القضية الفلسطينية وجر القائمين عليها إلى مواقف بعضهم وتحالفاتهم معتقدين أننا لا نستطيع أن نقول لا لمخططاتهم... دعونا نبتعد عن تحليل حقيقة موقفنا وإذا ما كان صائباً أم لا، ولنذهب إلى التحرر من حالة الابتزاز هذه إلى مواجهة هذا الواقع المرير إضافة إلى مواجهة سياسة الاحتلال وعدوانها اليومي على مقدرات شعبنا والمدخل لتصويب هذه الحال هو بالعمل الجدي لإنهاء الانقسام الداخلي.
إن إنهاء الانقسام ليس رفاهية لمثقف أو سياسي محترف، بل هو حاجة أساسية للحفاظ على ما تبقى من حقنا الوطني. كل من يتابع الوضع يعرف تعقيدات الوصول إلى إنهاء الانقسام ونقله من "المستحيل" إلى الممكن، لكن الوصول إلى الممكن لا بد منه ولا بد من بذل الجهود من أجل الوصول إلى "تسويات فلسطينية داخلية" أسوة "بشطارتنا" في الوصول إلى تسويات مع المحتل من أرضنا...!
المسؤولية الرئيسية بإنهاء الانقسام الداخلي تقع على القيادة الرسمية الفلسطينية، كما أن تقديم مشاريع لحل "جبل المشاكل المتعاظم" هو من صلب مهماتها وليس من مسؤولية من مارس الانقسام. ما يبدو على السطح أنه كلما جرت محاولة لتقليص مسافات التباعد وبهدف التخلص من الانقسام فإن هناك أصواتاً تعلو من المستفيدين من الانقسام تهاجم هذه الخطوة وأصحابها بهدف إحباطها في مهدها!
ومن جانب آخر، وليس بعيداً عن ضرورات السعي لإنهاء الانقسام فهو العودة إلى تفعيل الجهود من أجل الدعوة لانعقاد دورة المجلس الوطني، والاستعدادات الضرورية لإنجاح الاجتماع المنشود، وإعادة تجديد شرعيات هيئات المنظمة والاتفاق على البرنامج السياسي ما بعد الوصول إلى طريق مسدود مع الطرف الآخر من اتفاق أوسلو، وهنا فليس مهماً إن كانت دعوة "الإطار القيادي المؤقت" أو دعوة لجنة تحضيرية للمجلس هي الأولوية، إذا ما توافقت كل الأطراف المكونة لخارطة العمل الفلسطيني على العمل وفق أي صيغة، ونعني بذلك حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
إن تجديد الأطر الشرعية الفلسطينية لا تقتصر على المجلس الوطني، رغم أهمية ذلك، ولكن التجديد يجب أن يطال انتخابات الرئاسة الفلسطينية، والمجلس التشريعي (أو مجلساً نيابياً ينسجم مع الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية عضواً بالهيئات الدولية)، إضافة إلى ذلك إجراء انتخابات المجالس البلدية والقروية بمواعيدها وتحريم العودة إلى أساليب التعيين.
وبالرغم أن موضوعنا يتعلق بإعادة تموضع الميزان الداخلي الفلسطيني، إلا أن ذلك لا يبتعد عن تنفيذ القرارات الخاصة بإعادة النظر بالاتفاقات مع الاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك إعادة النظر بالاعتراف المتبادل والاتفاقات الأمنية والاقتصادية. لقد جرى تحديد مواعيد لإنجاز ذلك، وليس معروف بعد إلى أين نحن ذاهبون نحو تحقيق كل القرارات؟
إن مواصلة اتباع السياسة الانتظارية وتبديد كل محاولات إعادة التوازن للوضع الداخلي الفلسطيني أمور لا بد منها لمغادرة حالة فقدان الوزن التي تمر بها قضيتنا الوطنية، والعمل الجاد من أجل وضع القضية الفلسطينية في موقعها الصحيح، وهي مهمات بحاجة إلى أدوات جديدة لا بد من استخدامها للخروج من الحال الراهن.