حاوره من لبنان- مصطفى أبو حرب
الحدث - بدأ الأستاذ لوباني كلماته بشيء من الارتجاف بنبرات صوته الممزوج بالحنين إلى قريته الدامون، التي لا ينفك يذكرها بكثيرٍ من الدقة والتفصيل، حيث يتذكر البيارات والبساتين ومدرسة القرية التي درس فيها حتى الصف الثالث الابتدائي وأستاذيه شريف عبيد وخليل البيطار، وكيس كتبه الذي فقده أثناء مغادرته للقرية تحت وابل من القصف المدفعي وأزيز رصاص اليهود الغاصبين. وكان ذلك في شهر أيار 1948 حيث شاهد بأم العين سحب الدخان تتصاعد من الكرمل والريفاينري (معمل تكرير البترول)، إثر مواجهات عنيفة بين أهالي القرى وعصابات الاحتلال.
هو أحد الكتاب الفلسطينيين الذين أثْرَوا مكتبتنا بالعديد من الكتب التي لا يمكن لباحث في التراث الفلسطيني إلا أن يعود إليها، كما كانت له العديد من الدراسات البحثية والمؤلفات الأدبية.
عمل في حقل التدريس فربَّى أجيالاً من أبناء شعبنا على حب فلسطين وعمل بدأب في كافة مجالات العمل الوطني الشعبي والجماهيري وما زال يقوم بواجب خدمة للقضية الفلسطينية من خلال قلمه وإحياء الذاكرة الفلسطينية من خلال كتاباته.
وللإطلال على بعض ما عنده كانت لنا هذه المقابلة مع الأستاذ حسين لوباني.
حول غربته عن وطنه يقول لوباني: «غادرت قريتي ووطني ولكنه لم يغادرني لحظة، غادرت الطفولة السعيدة الهنيئة إلى شقاء الغربة والتشرد وفقدان الهوية وهذا ما لم يكن يخطر على بالي لحظة.
وبعد مسير شاق وتنقل بين القرى والبلدات الفلسطينية وعبورنا للحدود مع لبنان، حطَّت بنا الرحال في ميناء طرابلس حيث أقمنا هناك ما يقارب العام ويزيد، حتى قامت الأونروا بإنشاء مخيم نهر البارد. وما أذكره تماماً هو أنني عدت من عملي في الفرن في ذلك اليوم إلى البيت في الميناء فلم أجد الأهل ولا الجيران. سألت فقالوا لي بأن الجميع قد نُقلوا بالشاحنات إلى منطقة تسمى نهر البارد، فسألت عن هذه المنطقة فدلني عليها أحدهم وعندما ذهبت إلى البارد وجدت مجموعات من الخيم البيضاء المتشابهة وبدأت أجول بناظري لا أعرف أيها خيمتنا، وحضرتني المقارنة بين بيوت الحجر المحاطة بالبيارات في قريتنا وهذه النماذج الأشبه بأكفان الموتى. ثمَّ وأنا مأخوذ بهذا المشهد إذ بأحد أقربائي يجذبني ويقول لي حسين تعال أدُلكَ على خيمتكم. وكم سررت بهذه الكلمات التي أشعرتني بأنني لم أعد تائهاً وبأنني وجدت عائلتي الضائعة. وبدأت أيام الشقاء والعذاب للكل الفلسطيني مأساة الغربة والفقد للأهل والمال وللسعادة والمأساة الأكبر فقدان الوطن والهوية».
الخمسينيات فترة الفتوة والتحديات
وعن فترة الخمسينيات يقول لوباني: «كانت فترةً صعبًة على الجميع، ولكن الفلسطيني كان قد تمرس في تحدي الصعاب، فنبعت لديه روح التحدي مرة أخرى لإثبات الهوية وفُتحت خيم التدريس وتجمَّع الأطفال حول بعض المدرسين مثل الأستاذ فرج موعد الذي عمل بكد وأسَّس لحالة فكرية وسياسية في مخيم نهر البارد وكان له الفضل في تخفيف بعض المعاناة عن الأهالي المنكوبين.
ولكن هذه المعاناة كانت بصمةً لا بل جرحاً في أعماقي لن يندمل أبداً، وهذه الأشياء المؤثرة ظهرت في كتاباتي وأعطتني زخماً لكي أدافع وأتكلم عن قضية بلدي بشراسة وعناد وأدركت بأن العدو الذي سلب الأرض وطرد الشعب عدو شرس لا يرحم، واخترت كشخص طريق العلم لكي أثبت الشخصية الفلسطينية صاحبة الهوية الوطنية وأنا كفلسطيني قاومت بادئ الأمر بالبندقية، ومن ثم بالقلم وعملت بجهد و كي أنقل المعرفة والعلم وأوسِّع دائرتهما لإدراكي بأهمية سلاح الوعي والعلم في العملية النضالية».
ثمَّ يتابع حديثه موضحاً كيف كانت فلسطين في تلك الفترة تمثل الهم الأكبر مضيفاً: «كنا دائماً نتكلم عنها ونتساءل متى ستعود والكل يعطي الوعود والجميع في حالة تأهب من أجل العودة. وأذكر أول تظاهرة قمنا بها حينها هتفنا «جندونا أعطونا سلاحاً»، وكانت التظاهرات حينها تُعامَل بشراسة، وجرح العديد منا ولكن ظهر أيضاً بين الشباب الأستاذ المربي فرج موعد وهو الذي صنع مني ومن غيري من الفتيان طليعةً ثوريةً ضمن حركة القوميين العرب ونحن أكملنا الرسالة التي حمَّلنا إياها لتلامذتنا الباقيين.
انتسابه إلى حركة القوميين العرب
وانتسبتُ لحركة القوميين العرب في تشرين ثاني 1952، وقد تواجد في منطقة الشمال العديد من الشباب الثائرين مثل أحمد اليماني وفرج موعد وآخرين، غير أننا حوربنا من قِبَل الشعبة الثانية في عهد الرئيس كميل شمعون وتعرضنا للملاحقة والأسر والضرب، ولكن كان لدينا إصرار على متابعة درب النضال لتحرير الوطن السليب»، لافتاً إلى أن فلسطين كانت حاضرة في كل المناسبات التي كان يتم إحياؤها كذكرى مجزرة دير ياسين وذكرى استشهاد القائد عبد القادر الحسيني رغم المنع والتضييق.
وحول الحالة السياسية التي كان يعيشها الفلسطيني في الخمسينيات، أشار لوباني إلى أن الفلسطيني كان يعيش حالة ترقب للخطابات العربية وعلى رأسها خطابات عبد الناصر، متابعاً: «عندما أُمِّمت قناة السويس وحدثت حرب 1956، خرجنا بمظاهرات في طرابلس وجابت شوارع المدينة. وحصل مد ثوري فظيع في المخيمات الفلسطينية بسبب حركة القوميين العرب و اندلاع حرب 1956، لأننا بتنا نعتبر الرئيس جمال عبد الناصر الأمل الذي سوف يعيد فلسطين مكرمة لأصحابها. ومع ذلك فقد خرج الفلسطيني من فقره وجوعه وتقدم على العديدين في المؤسسات التربوية والتعليمية ممن كانت ظروفهم جيدة وجيدة جداً».
الستينيات مرحلة النضوج الفكري والعمل الوطني
يواصل لوباني حديثه منتقلاً إلى مرحلة الستينيات التي اعتبرها فترة نضوجه الفكري والسياسي حيثُ أصبح مدرساً وأدرك بأن القضية الفلسطينية صعبة جداً وتحتاج إلى عمل وعلم، وبأن العدو الإسرائيلي مدعوم دولياً من دول تدَّعي الحضارة والحرية. ويرى لوباني أن ظهور الفصائل الفلسطينية والأحزاب العربية في الخمسينيات والستينيات كالحزب القومي السوري، وحزب البعث، وحركة القوميين العرب، وحركة «فتح»، وحزب التحرير وفصائل فلسطينية أخرى جاء نتيجة لهذه الأوضاع. ويضيف: «في فترة الستينيات استلم لبنان الرئيس فؤاد شهاب الذي كان القائد العسكري حينها للبنان، فقام بلجم هذه الحركات، واستلم الشعبة الثانية كل من سامي الخطيب وجوني عبدو اللذين ضيقا علينا الخناق، وحصل الجلب والإحضار بالقوة للعديد من شباب المخيمات الفلسطينية وسجنهم دون تحقيق أو تدقيق وفقط بتهمة التظاهر أو توزيع بيان أو نشره.
ياسر عرفات كان المسؤول عن بلورة فكرٍ فلسطينيٍّ رائد
ولكن هذه الفترة كانت تخبئ خلفها أشياءً مهمةً على الصعيد السياسي ظهرت بوجود الشهيد القائد ياسر عرفات الذي عمل بجهد كبير منذ أوائل الخمسينيات في تحضير وتأطير الطلبة الفلسطينيين في مصر، وكان المسؤول عن بلورة فكرٍ فلسطينيٍّ رائد تضافر مع وجود أفكار متعددة في الساحة الفلسطينية، مما دفع باتجاه بدء عمليات مسلحة ضد العدو الصهيوني على أرض فلسطين انطلاقاً من الحدود العربية فسقط العديد من الشهداء وهذا يدل على حضورٍ فلسطيني وسعي شبابي فلسطيني للقيام بالواجب تجاه تحرير الوطن السليب. فقد سقط من البداوي الشهداء محمد اليماني وسكران سكران وأحمد موسى وآخرون، وشهدت هذه الفترة انطلاقة الثورة الفلسطينية في 1965/1/1، وتعددت الفصائل الفلسطينية وحدثت النكسة التي أثَّرت فينا سلباً وأحبطت قوانا. ولكن الأمل عاد إلينا في معركة الكرامة التي خاضتها حركة «فتح» مع مجموعات من فصائل فلسطينية. وأذكر بأن أكثر من نصف تلامذتي في صف «البروفيه» غادروا وانضموا إلى صفوف حركة «فتح» في جرش وعجلون والكرامة، وبذلك أثبت الشعب الفلسطيني بأنه يستطيع أن ينتصر. ثمَّ أخذ العرب يدعمون الثورة الفلسطينية، وأخذت الثورة تستقبل الشباب الفلسطيني من كل حدب وصوب، وبدأ الفدائيون يزورون المخيمات ملثمينَ وبالسر وكان الجميع يسمع بالفدائيين ولكنهم لم يعرفوهم. وهكذا كان أن بدأ التدريب على السلاح بسرية تامة، ومن ثم ظهر العمل الفدائي العلني في كل المخيمات بدءًا من مخيم نهر البارد وشعرنا بأن فلسطين باتت قريبة جداً منا».
أثر الحالة الوطنية والثقافة الفلسطينية في كتابات لوباني
عن تأثيرات هذه التفاصيل في كتاباته وتأثير هذه الكتابات في الشباب الفلسطيني بدورها يقول لوباني: «الشحن الداخلي عندي وعند كل فلسطيني كان يظهر بصرخات ونداءات أثناء المظاهرات أيام الشباب وبموضوعات إنشائية ذات نكهة وطنية كنت أعطيها لتلامذتي أثناء ممارستي لمهنة التدريس محاولاً التنفيس عما في داخلي من ثورة. وعندما تخرَّجت ونلت شهادة في اللغة العربية، والحمد لله، استطعت أن أجيِّر خطبي المنبرية السبعمائة إلى تحريض واستنهاض للشباب الفلسطيني، وشكلت خطبي المستمرة حالة وطنية خاصة عندما حضر العمل الفدائي في التنظيمات الفلسطينية. ولكنني لم أكتفِ بذلك، فقمت بكتابة سبع مسرحيات وطنية من العيار الثقيل قدَّمت في مخيمات الشمال وبيروت وبعلبك. كذلك شعرت أن الألفاظ لدى الشباب بدأت تتغير وحتى طريقة لباسهم وقصة شعرهم، فأردت أن أخدم وطني على طريقتي لأنني بدأت أشعر بأن صحتي بدأت تتأخر، ولكنني كنت حاضرَ الذهن ومتوهج الذاكرة. فاتجهت نحو توثيق التراث الفلسطيني وبدأت أولاً ببلدي الدامون فألَّفتُ كتاباً عنها أسميته «الدامون بلدة فلسطينية في البال» ووزعته لأهالي بلدي وسائر أبناء القرى الفلسطينية وذلك في العام 1998، ولحقني العديد من أبناء القرى الأخرى تأليفاً عن قراهم وهذا شيء جميل. وطورت عملي وبدأت آخذ أبرز عناوين التراث الفلسطيني وأكتب عنها. وبعدها ألفت كتاباً، يعتبر نوعاً من مذكرات متوهجة بالنسبة لي أنا كإنسان، يروي أحداثاً مرتبطة بقريتي وبلدي وبالنكبة وأيامها وهو «رحلة عذاب أو فيلم فلسطيني طويل». ثمَّ بدأت أكتب كتباً أخرى فأنهيت ما يسمى بموسوعة اللوباني عن حضارة فلسطين وهي موسوعة تضم عشرين مجلداً وتغطي سائر عناوين التراث الفلسطيني. والحمد لله سمعت أخباراً سارةً تقول بأن سفير فلسطين في تونس اقترح أن يتم تدريس كتبي في المعاهد والمدارس والجامعات الفلسطينية. لذا أحمد الله لأنني تمكنت كفلسطيني من أن أُتِّم وأُكمِل عملاً تراثياً موحداً للشعب الفلسطيني، وأرجو من الله أن أكون قد أسهمتُ في خدمة قضيتي من خلال الحفاظ على هذا التراث الفلسطيني علماً أنني لم اخترع تراثاً لأن التراث موجود، ولكنني حاولت الحفاظ عليه وتذكير الشباب الذين ولدوا في اللجوء أن ينتبهوا لتراثهم العظيم والمميز، وبأن عدونا الذي سلب أرضنا لا يملك أيَّ تراث لأن عمره ستين سنة فقط والتراث يحتاج إلى مئات السنين كي يصبح تراثاً لشعب. وهذا يعني أننا متجذرون في فلسطين وإسرائيل التي ليس لها تاريخ في فلسطين لن يكون لها أي مستقبل فيها».
أصل فكرة جمع التراث وآليتها
«اخترت أن أوثِّق التراث الفلسطيني الذي كنت خائفاً أن يندثر بسبب حالة اللجوء والغربة ، فأخذت أعمل على جمعه كي أُبقي أبناء القرى على تماس بقراهم التي هجِّروا منها من خلال الحفاظ على تراثهم في الأمثال والألفاظ والأكلات» يقولها لوباني معلِّقاً على كيفية تبلور فكرة جمع التراث لديه. ويضيف: «في البداية كان حماسي مرتكزاً على بعض الذكريات التي حملتها من بلدي. وعندما صرت أستاذاً صارت تتبادر إلي أسئلة عن كلمات وأكلات وأمثال فلسطينية، وكانت هذه الأسئلة هي المحرض والدافع لعملية جمع معلومات تراثية من المسنين من أهل قريتي طيلة خمس سنوات حتى تبلور وخرج إلى النور كتاب «الدامون». وبعد ذلك انتبهت إلى أن والدي يعتمد في حديثه على إطلاق الأمثال، فقمت بعملية جمع للأمثال الفلسطينية بمساعدة طلابي كلٌ من قرية وبطريقة منظمة مع ذكر المصادر والتاريخ، واستطعت أن أجمع كماً كبيراً من الأمثال الفلسطينية طيلة 12 سنة. كما قمت بالاتصال بالعديد من المقاتلين من قرى الضفة وغزة حتى يتصف كتابي بالشمولية لغالبية القرى والبلدات والمدن الفلسطينية، واستطعت أن أجمع حوالي عشرة آلاف مثل. وقد أخذ هذا الكتاب واسمه «معجم الأمثال الفلسطينية» نصيبه من الشهرة، ويبلغ عدد صفحاته حوالي الألف صفحة، وأنا أتوجه بالشكر إلى مكتبة لبنان ناشرون في بعبدات لموافقتهم على نشر أعمالي الفلسطينية علماً، وأقولها بحسرة، أنني درت ودققت كل أبواب المطابع في المنطقة العربية ولم أجد من ينشر لي، والكل كان يقول لي أن العمل ملفت وجميل ولكنه غير مربح. ولكن الدكتور المرحوم خيري الصايغ لم يسأل عن الربح وإنما رحب بي وبعملي. وقد قمنا بطباعة العمل على شكل معاجم كي أسهل على القراء الشباب تناول المادة. فقمنا بعمل عشرين عنواناً ظهر منها حتى الآن ثمانية عشر وتحت الطباعة اثنان آخران كان يجب أن ينتهي العمل بهما مؤخرا ولكنّ ظروفاً حالت دون ذلك. غير أننا مستمرون وكل عمل فيه راية فلسطين ويفيد القضية ويضر بالعدو الصهيوني نحن جاهزون للقيام به دون أي تردد».
ويختم الأستاذ حسين لوباني بالإشارة إلى أنه دائماً ما يعود لكتاب الدامون لأنه يذكره بأهله وقريته، لافتاً إلى رغبته في كتابة كتابٍ عن قريته ببياراتها وأشجارها معلِّقاً بالقول: «قريتي نموذج لسائر القرى والبلدات الفلسطينية لأنني ولدت وعشت فيها ولا زالت صورتها في عقلي وقلبي، ويومياً أشعر بأن الدامون تنام على زندي»