الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الإشتباك الدَّولي في المنطقة..صخَبُ الإعلام والتَّسلية العامَّة " بقلم: رائد دحبور

2015-12-29 02:58:17 PM
الإشتباك الدَّولي في المنطقة..صخَبُ الإعلام والتَّسلية العامَّة
رائد دحبور

طَبَعتْ الصِّراعاتُ والتَّوتراتُ في منطقة الشرق الأوسط على امتداد الكثير من العقود الماضية وَعْيَ النَّاس في هذه المنطقة بل وشكَّلت سيكولوجيَّة واتِّجاه تفكيرهم على نحوٍ يُنْذِرُ بتوقُّعاتٍ دراماتيكيَّة دائماً كما هي طبيعة الأحداث التي تجري فيها، وذلك ضمنَ رؤيةٍ انفعاليَّة تمتزِجُ فيها المآسي بالتَّوَقُّعات الحالمة كما تمتزجُ فيها الآلامُ بالآمال، بحيث تُفضي الأمور وَوِفقَ تلك الرُّؤية إلى الخلاص المُنْتَظَر عبر مزيدٍ من الكوارث السِّياسية.

أسهم اختراع الطِّباعة في أوروبا في بداية عصر النَّهضة في جعل التَّنوُّع الدِّيني والثَّقافي سهل المنال، وفي إعادة صياغة مفهوم وواقع المعرفة والتفاعل المعرفي على نحوٍ جديد، على قاعدة إلغاء الحدود بينَ امتلاك المعرفة واحتكارها وصعوبة استخدام المعلومات وبين إتاحَة استخدامها على نطاقٍ واسع كواقعٍ جديد أفرزه انتشار المطبوعات والكتب، وما كان لذلك من ارتدادات في حسم التَّناقضات التي كانت قائمة بين المنظومات المعرفية والقِيَمِيَّةِ القديمة والجديدة في مركز عمليَّة التَّحول الكبرى التي جرت آنذاك وطبعت العالم بصورته الحديثة كما نراها الآن.

وحيث أكملتْ الثَّورة في عالم الإتِّصالات تلك المسيرة إلى أنْ وصلنا إلى الدَّور الصَّاخب – بل والعابث المشاغب والإنتهازي – الَّذي تقوم به وسائل الإعلام في جعلِ كوارث النِّزاعات والصِّراعات وكأنَّه نوعٌ من مادَّة التَّسلية اليوميَّة العامَّة، خاصَّة في تلك المناطق البعيدة جغرافياً عن مركز وبؤرة النِّزاعات في منطقة الشرق الأوسط – والمؤثِّرة فيها فعلاً في ذات الوقت إلى حدٍّ كبير- تلك المناطق التي تبدو وكأنَّها تنتمي إلى عالمٍ آخر تماماً في النِّصف الغربي الشَّمالي للكوكب – في أوربا وأمريكا الشَّماليَّة تحديداً - حتَّى أنَّ هذا الصَّخب الإعلامي وفي الوقت الَّذي يمثِّلُ مادَّة للتسليةِ هناك فإنَّه بات يُشكِّلُ ما يشبه الملهاة أو إحدى وسائل الإكتئاب القهري بالنِّسْبَةِ لشعوبِ العالم الَّذي أُقْصِيَ عن مركز الحضارة والتأثير، بحيثُ يُسْهِمُ الإعلامُ الصَّاخبُ في صبِّ مزيداً من الدِّماء في طاحونَةِ العنف المروِّع الَّذي يجتاح كثيراً من مساحاتِ ذلك العالم المُهْمَلِ إلَّا من كونه مساحة رحبة للصراعات الدوليَّة !!.

ماذا بشأنِ منطقة الشَّرق الأوسط إذَنْ ؟؟ وماذا بشأنِ ما يجري فيها الآنْ من تنافسٍ واشتباكٍ دولي ضمن المفهوم الجديد للتنافس وللصراعات الدَّولية بوسائل مباشرة أو مواربة ؟!.

دعونا نقتبس هذه الفقرات لـ " هنري كيسنجر " في كتابه الشَّهير " هل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجيَّة ؟ نحو دُبلوماسيَّة للقرنِ الحادي والعشرين " والَّتي يُجري من خلالها مقارنة بين أوضاع أوروبا في القرنين السَّادس عشر والسَّابع عشر وبين أوضاع الشَّرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين إذْ يقول:

" في أوروبا كانت القيود على الحكم مستمدَّة من العرف لا من الدَّساتير ومن الكنيسة الكاثوليكيَّة العامَّة التي حافظت على استقلالها الذَّاتي، واضعةً بالتَّالي – دون قصد – أساس التَّعدُّديَّة والضَّوابط الدِّيمقراطيَّة على قوَّة الدَّولة الَّتي تطوَّرَتْ بعد ذلك بعدَّةِ قرون. وفي القرنِ السَّادس عشر والسَّابع عشر انهارتْ هذه البُنْيَة تحت التأثير المزدوج الَّذي حطَّمَ الوحدة الدِّينيَّة حيث كان التَّنوع الدِّيني سهل المنال على نطاقٍ واسع، وقد طوِّر الإضطراب النَّاشىء في حرب الثَّلاثين سنة التي باسم الإستقامة الأيديولوجيَّة الدِّينيَّة في ذلك الوقت قد قتلت 30 بالمئة من السُّكان في وسط أوروبا.

ومن هذه المجزرة برزت الدَّولة الحديثة كما عرَّفَتْها معاهدة – وستْفاليا في سنة 1648 وقد شكَّلت مبادؤها الأساسيَّة العلاقات الدَّوليَّة حتَّى يومنا هذا. لقد كان أساس المعاهدة هو مذهب السِّيادة التي أعلنتْ أنَّ السُّلوك المحليّ للدولة ومؤسَّساتها ليسَ في متناول الدُّول الأخرى. تُماثل صراعات الشَّرق الأوسط إلى حدٍّ كبير صراعات أوروبا في القرن السَّابع عشر، فهي ليست اقتصاديَّة، كما هو الحال في منطقة الأطلسي ونصف الكرة الغربي، أو استراتيجيَّة كما هو الحال في آسيا، لكنَّها آيْديولوجيَّة ودينيَّة. ولا تنطبق هنا مبادىء دبلوماسيَّة السَّلام الوِسْتفالي – في إشارةٍ إلى معاهدة وستفاليا عام 1648 – وتغيب التَّسوية عندما لا تتعلَّق بتظَلُّمٍ مُحدَّد ولكن بشرعيَّة، بل ووجود، الجانب الآخر. أو على أمور مقدسة كما هي طبيعة النزاع بين العرب وإسرائيل

هكذا إذَنْ يُخبرنا " هنري كيسنجر " ثمَّ يُضيف في مكان آخر من كتابه وبعد أنْ يشرح تخلِّي أمريكا والدُّول الأوروبيَّة – من حيث المبدأ - عن مبدأ عدم  التَّدخل في شؤون الدُّول ذات السِّيادة وفق معاهدة وِسْتفاليا المُشار إليها سابقاً - كمحدِّدٍ أساسيٍّ قديمٍ نسبيَّاً قد أَسْهَمَ في صياغة العلاقات الدَّوليَّة - وذلك فيما يتعلَّق بتجاهل مبادىء تلك المعاهدة فيما يخُصُّ التَّدخل في قارةِ إفريقيا وفي جنوب آىسيا وفي منطقة الشَّرق الأوسط والتنافس والصراع الدَّولي فيها وعليها في ظلِّ توازن القوى النَّوويَّة، حيث يقول كيسنجر:

" في الماضي كانت تحوُّلات ذات حجم أقل بكثيرٍ تؤدِّي إلى حروبٍ رئيسيَّةٍ بل إنَّ الحروب تقع في بوتيرةٍ عالية في النِّظام الدَّولي الحالي أيضاً. لكنَّها لم تضُم البتَّة أيَّاً من القوى العظمى في صراعِ إحداها مع الأخرى، فقد غيَّرَ العصر النَّووي أهميَّة دور القوَّة فيما يتَّصل بعلاقة البلدان الرَّئيسيَّة بعضها ببعض...إنَّ السياسات المحليَّة تدفع السياسة الخارجيَّة الأمريكيَّة في الاتِّجاه المعاكس. فالكونغرس لا يُشرِّع لتكتيكات السِّياسة الخارجيَّة فحسب؛ بل إنَّه يسعى أيضاً إلى فرضِ قانون سلوك على الأمم الأخرى بواسطة العقوبات. وتجد كثيراً من الأمم نفسها خاضعة لتلك العقوبات.. وفي الوقت نفسه أخذ الإعلام الصَّاخب ودائم الحضور يُحوِّلُ السِّياسة الخارجيَّة إلى فرعٍ من فروعِ التسلية العامَّة، فالتَّنافس الحاد يُنتِجُ هوساً بالأزمة الآنيَّة ويقدِّمُها كلعبَةٍ أخلاقيَّة بين الخير والشَّر لها نتيجة مُحدَّدَة ".

وإذا أخذنا هذا الكلام كمثال، ففي هذا الإطار من الفهم وضمن تلك الحدود يجري إذنْ التَّنافس والاشتباك الدَّولي في المنطقة، ويجري ذلك في إطار النَّظرة الإستعلائيَّة الَّتي تُحَدِّدُ المكانة الدُونيَّة لمجتمعاتِها ضمن رؤية وتصنيف استراتيجيي الغرب، وضمن تلك الحدود يتمُّ النَّظر لمُستَقبَلِها ومستقبل ومصير شعوبِها، بحيثُ – وعلى ما يبدو - ستبقى تلك الشُّعوب حبَّاً في طاحونة الحروب الدَّوليَّة إلى أمدٍ غير منظور حتَّى الآنْ!!.