الحدث - وكالات
دافعت دراسة إسرائيلية عن الشريعة الإسلامية، ووصفتها بواحدة من نظم العدالة الأكثر تطورا والأكثر إثارة للإعجاب في التاريخ الإنساني.
الدراسة التي جاءت تحت عنوان "من يخشى الشريعة؟" أعدها الدكتور "عيدو شحار" المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط بجامعة حيفا، ورأت أنه من الإجحاف الحكم على الشريعة الإسلامية وفقا للأفعال المروعة التي يقوم بها تنظيم داعش المتشدد، وهي الممارسات التي لا تمت للشريعة بصلة في الأساس.
وقال "شحار" في الدراسة المنشورة على موقع "همزراح هكاروف" وتعني "الشرق الأدني" إن هناك أدلة في سجلات المحكمة الشرعية بالقدس على توجه النساء اليهوديات في قرون سابقة للمحكمة الشرعية وليس للمحكمة الحاخامية اليهودية، لضمان حقوقهن، وإنصافهن، واصفا المخاوف من تطبيق الشريعة في أوروبا بـ"غير المبررة".
إلى نص الدراسة:-
شهدنا في السنوات الماضية اتساع الحديث السلبي والعدائي تجاه الشريعة الإسلامية. هذا الحديث يأتي مدفوعا من المخاوف (المبررة) من الإرهاب الإسلامي، والمخاوف (غير المبررة) من تطبيق الشريعة في أوروبا، وسيطرة الإسلام على الغرب.
تغرق وسائل الإعلام ذائعة الصيت، وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي مستخدم الانترنت المتوسط بقصص رعب عن قطع أعضاء وعمليات قتل وحشية، وعن الاعتداء على النساء برعاية الفقه الإسلامي.
مقاطع فيديو مرعبة لـ"الحدود الإسلامية" وعمليات قتل كتلك التي يقوم بها داعش، يتم تحميلها في كثير من الأحيان على اليوتيوب ومواقع الكترونية أخرى، تضاعف أيضا الشعور بالرعب والفزع.
للأسف، حوادث التطرف المروعة هذه، تصبغ الشريعة الإسلامية كلها بلون سلبي وخطير. ينظر إلى التوصيفات المرعبة كممثل بشكل موثوق لـ"العدالة الشرعية"، بينما تمثل عمليا استثناءات وفقا لكل المقاييس التاريخية والقضائية.
إن نظرة أكثر توزانا وعقلانية للفقه الإسلامي تكشف أنه ليس هناك أية علاقة تقريبا بين تطبيق الشريعة على أيدي داعش وبين تاريخ طويل من الفقه الإسلامي بالشكل الذي جرى به تطويره وتطبيقه بين رجال الدين الذين ينتمون إلى التيار الرئيسي للإسلام.
إن نظرة أكاديمية نزيهة للشريعة تظهر أن الحديث يدور عن واحدة من نظم العدالة الأكثر تطورا والأكثر إثارة للإعجاب في التاريخ البشري.
حتى بدون تبني الفهم الإسلامي الذي ينظر للشريعة على أنها قانون إلهي المصدر ( وفقا للعقيدة الإسلامية، القرءان هو الكتاب الخالد الذي نزل على محمد على يد وحي الله جبريل) فليس هناك مفر من الاعتراف بالقيمة الخاصة- المعيارية، والعقائدية، والمؤسسية والتحليلية- للمصنع الكبير لصياغة وتطوير الشريعة الإسلامية.
نجح علماء الدين الإسلامي على مر العصور في إنشاء هيكل قضائي متطور ذو منطق داخلي ومؤسسات فاعلة، مكن الحكام المسلمين وكذلك النخب والعوام من العثور على الوسطية بين المبادئ والقيم السماوية والأعراف المتبعة والحياة اليومية.
عرف كل واحد من المذاهب الفقهية السنية الأربعة - المذهب الحنفي، والمذهب الشافعي، والمذهب المالكي، والمذهب الحنبلي، ليس فقط كيفية بلورة عقيدة فريدة من نوعها وذات منطق داخلي، بل أيضا كيفية صناعة أجهزة مؤسسية متطورة تسمح بإحداث توازن بين التوحيد العقائدي، وبين المرونة والتطور التفسيري، بين الحفاظ على استقلالية فكر العلماء وبين الأخذ في الاعتبار احتياجات البلاد وإرادة الحاكم. بين الاستقرار والاستمرارية وعمليات الابتكار والتغيير.
وبالفعل تظهر أبحاث حديثة حول تاريخ الفقه الإسلامي أن هذه المنظومة لم تتجمد في القرن العاشر، مثلما اعتقد الباحثون في الماضي، وإنما استمرت في الانفتاح والتطور وتكييف نفسها مع الظروف التاريخية المتبدلة.
علاوة على ذلك، فإن استعراض التاريخ الطويل للفقه الإسلامي يكشف بالفعل أن الشريعة مثلت دائما (أو بشكل شبه دائم) نظام عدالة واقعي، قابل للتكيف وذو قدرة عالية على الوصول لجميع قطاعات السكان.
على سبيل المثال، ساهم علماء الفقه الإسلامي في الإمبراطورية العثمانية في تغيير العقوبات الجسدية التي قضى بها الإسلام على جرائم معينة (قطع يد السارق، ورجم الزناة مثلا) بغرامات تدفع لخزينة الدولة.
كما عرفوا تطبيق معايير وممارسات العدالة الاجتماعية، التي منعت الأقوياء وأصحاب النفوذ من سوء معاملة الضعفاء والاستئساد عليهم، بل اتبعوا- رغم كون الشريعة قانون أبوي يضع النساء في مكانة دونية واضحة أمام الرجال- نظاما فاعلا للحماية يضمن أن تحصل النساء على كامل حقوقهن الممنوحة لهن في إطار الحياة الأسرية.
الحقيقة التي لا لبس فيها أنه على مدى التاريخ، أكثرت الأقليات غير المسلمة ( يهود ومسيحيون ينتمون لكنائس مختلفة) التي عاشت في مجتمعات إسلامية وتحت أنظمة إسلامية من التوجه للمحاكم الشرعية للحصول على أشكال مختلفة من المساعدات، حتى عندما كان لديهم الخيار للتوجه للمحاكم التي تمثل طوائفهم.
فعلى سبيل المثال، تحوي سجلات المحكمة الشرعية بالقدس من القرن الـ 17 والـ 18 والـ19 أدلة في الغالب تشير إلى نساء يهوديات فضلن التوجه تحديدا للمحكمة الشرعية وليس للمحكمة الحاخامية، من أجل ضمان حقوقهن المالية (الأدلة عن ذلك جاءت في سلسلة كتب "يهود في المحكمة الإسلامية" من إصدار "ياد يتسحاق بن تسفي".
إذا كان الأمر كذلك، ربما ليس من العجيب أن نكتشف، أنه حتى اليوم أيضا في إسرائيل، يختار المتقاضون المسلمون وتحديدا معظم المتقاضيات المسلمات التوجه للمحاكم الشرعية، أيضا في المسائل التي يتاح لهم فيها الخيار للتوجه لمحاكم الأسرة المدنية.
جدير بالذكر أن، مكانة المحاكم الشرعية في إسرائيل توازي بشكل أقل أو أكثر مكانة المحاكم الحاخامية في البلاد: هي محاكم دينية، لديها سلطة فريدة من نوعها في مسائل الزواج والطلاق، وصلاحيات موازية في مسائل الأحوال الشخصية.
الأمر يعني أن المتقاضين المسلمين في إسرائيل مجبرون على الزواج والطلاق في المحكمة الشرعية (كاليهود الملزمين بالزواج والطلاق في المحكمة الحاخامية)، لكن بإمكانهم اختيار الجهة التي يتوجهون إليها في مسائل الأحوال الشخصية الأخرى كالنفقة وحضانة الأطفال والوصاية. بالنسبة لهذه المسائل الخيار مفتوح أمامهم، إما رفع دعوى في المحكمة الشرعية أو في محكمة الأسرة المدنية.
كما ذكرنا، ففي معظم الحالات تفضل النساء المسلمات التوجه للمحاكم الشرعية وليس لمحاكم الأسرة. ربما يأتي هذا الاختيار أحيانا بسبب ضغط اجتماعي أو ديني يمارس على النساء، لكن ليس هناك من شك في أن التفضيل الواضح للمحاكم الشرعية يمثل خيارا حقيقيا للمتوجهين والمتوجهات إليها.
وعلى ما يبدو، معدلات النفقة المرتفعة نسبيا التي تحكم بها المحاكم الشرعية، ومستوى الإتاحة العالي وتنفيذ الإجراءات "الودية للمستخدم" التي تيسر على المتقاضين والمتقاضيات- كل هذه أسباب جيدة لتفضيل المحاكم الشرعية على باقي محاكم الأسرة.
على ما يبدو، ليس الآن فقط، وليس في إسرائيل وحدها، لكن في أماكن أخرى وعلى مدى التاريخ كله وفرت المحاكم الشرعية نموذجا للعدالة اعتبرته الجماهير الواسعة من المتقاضيين والمتقاضيات جذابا.
في السياق الإسرائيلي، يمكن القول إن المحاكم الشرعية العاملة في الدولة تحولت بمرور السنين إلى ما يشبه مساحة عمل إسلامية مستقلة جزئيا. صحيح أن القضاة العاملين في تلك المحاكم يتم تعيينهم من قبل رئيس الدولة، ويخضع موظفوها لنظام الخدمة المدنية الإسرائيلية، والقانون الذي يتم تطبيقه عليهم يخضع لتشريعات الكنيست. مع ذلك، حقيقة أن هذه المؤسسات الرسمية تطبق بالفعل رمز شرعي، وتدار من قبل مسلمين وباللغة العربية، تجعل منها ساحة عمل رسمية، لا تؤكد فقط على الوجود الشرعي للعرب المسلمين في إسرائيل، بل أيضا الاستقلال الثقافي والديني الجزئي الذي يتمتعون به.
بهذا المعنى تشكل تلك المحاكم الشرعية في إسرائيل نموذجا إيجابيا مزدوجا: سواء للشكل الذي يمكن للدولة من خلاله الاعتراف بالحقوق المجتمعية لمواطنيها الفلسطينيين المسلمين، ونموذج للشكل الذي يمكن من خلاله لأبناء الطائفة الفلسطينية المسلمة في إسرائيل العمل والاستفادة من اعتراف الدولة بحقوقهم المجتمعية.
بكلمات أخرى، وبخلاف الآراء المسبقة، والصور الشيطانية، يجب أن ننظر إلى الشريعة- خصائصها ومؤسساتها وتاريخها- بأعين مفتوحة، لا تشخص بدقة نقاط ضعفها فقط، بل أيضا الإمكانيات الكامنة بها.
كذلك على الذين ينتقدون المحاكم الشرعية في ضوء التمييز السائد بها بين الجنسين، وأيضا على المتخوفين من تطبيق شريعة قاسية وتعسفية، أن يحسنوا صنعا بالاعتراف بحق الأقليات (في إسرائيل أو أوربا) في تطبيق القوانين الدينية الراسخة في ثقافتهم.
بالطبع تطبيق ذلك لا يمكن أن يتم بالإجبار، ومن المستحسن ترك الحق الكامل في الاختيار لأبناء وبنات الطائفة، فيما يتعلق بموعد ونوعية المسائل التي يتوجهون بها للمحكمة الشرعية، وموعد ونوعية المسائل التي يتوجهون بها للقضاء المدني.