بمناسبة زيارته إلى برلين لمتابعة أعماله السينمائية وضمن جولةٍ أوروبية، كان للمخرج السوري نجدت أنزور حديثًا صحفيا تحدث فيه أنزور عن ظروف العمل السينمائي والتلفزيوني في سوريا، مشيرًا الى الانتقائية التي تمارسها دول الخليج ضد العمل الدرامي السوري وتختار ما يناسب سياسة بلادها ضد سوريا. وأكد أنزور أنّ فيلمه الأخير "مملكة الرمال" جاء في سياق مسلسلات تلفزيونية أنجزها في السنوات العشر الأخيرة، لأنّه يعرف منذ زمن بعيد أنّ الفكر الوهابي المتطرف هو الخطر الأكبر بعد "اسرائيل" على العالم العربي بشكلٍ خاص، وعلى الإنسانية جمعاء بشكل عام.
وتطرّق أنزور الى حياة الفنّان بشكلٍ عام في سوريا اليوم، معتبرًا أنّ "الفنان في نهاية المطاف هو مواطن يعاني مثل باقي المواطنين من الظروف الصعبة القائمة حاليًا في وطننا. القذائف العشوائية التي تتساقط هنا وهناك لا تفرّق بين فنان ومواطن، فهي تستهدف الجميع، تستهدف كلّ السوريين داخل الوطن. فلا خيار أمامنا إلّا تحدي الأزمة والانتصار عليها. بل لا يكفي أن نتفرّج وننتظر، بل يجب ان نشارك فعلياً في حلها كلٌ من موقعه. واجب القتال ليس محصوراً بالجندي السوري، فكلنا جنود من موقعنا في الازمة الحالية بشكلٍ أو بآخر لنحافظ على وطننا كفنانين ومثقفين وصحافيين ومواطنين عاديين".
ووجّه أنزور التحية الى "الفنانين السوريين الذين لم يتركوا وطنهم ولم يستجيبوا لإغراء المال، بل صمدوا ورفضوا المشاركة في أعمال فنية هجينة تسيء إلى سوريا وتقدم الازمة السورية بشكلٍ مغلوط". مؤكدًا على ضرورة "أن نقوم بواجبنا كفنانين في صدّ الهجمة الشرسة التي تُشنّ علينا".
وأشار المخرج السوري الى تأثر الانتاج الدرامي السوري، مثله مثل اي صناعة أخرى في سوريا، سواء كان زراعياً أو تجارياً أو سياحياً، نتيجة الأزمة ونتيجة الضغوطات التي تُمارس على سوريا، لكن أكّد أنّ "شعلة الأمل لا تنطفئ، فهي موجودة في قلوب الفنّانين السوريين داخل سورية وخارجها. والمطلوب اليوم من الجميع وقفة مشرّفة مع الذات، أن يخرج الفنّان من "الأنا" الضيقة ويعمل لمصلحة الوطن. لأننا اذا خسرنا هذا الوطن نكون قد خسرنا كلَ شيء، والذي لا يملك وطناً لا يملك شيئاً ولو امتلك مال الدنيا. الوطن هو هويتنا جميعاً، فدعونا نحافظ على الهوية".
كما تحدّث أنزور عن الصعوبات والعوائق التي تواجه عمله كمخرج بشكل مباشر، تصويراً وإنتاجاً في الظروف الحالية، قائلًا إنّ "الأحداث في سوريا تفرض نفسها على عملنا طبعًا. وكثير من الفنانين اضطروا لهجر بيوتهم ومدنهم، ومنهم من غادر البلاد، وهذا ما أدّى إلى مشكلة رئيسية تواجه أيّ مخرج وهي النقص في عدد الفنانين والفنيين التقنيين الموجودين داخل سوريا. والمشكلة الثانية هي لوجستية: في السابق كان بإمكانك كمخرج أن تتجول بحرية في كل ربوع سوريا وتصوّر في أماكن تشكّل خلفيات العمل الفني. ولكن بسبب الأزمة ثمّة اليوم أماكن لا يمكنك أن تذهب إليها للتصوير لأسباب تتعلق بالوضع الأمني.
إذ لا يمكن حتى زيارة بعض الأماكن فما بالك أن تصور فيها عملاً فنياً. أما المشكلة الثالثة فهي تراجع الاستثمار ونقص التمويل سواء تعلّق الأمر بالإنتاج التلفزيوني أو السينمائي. من المعروف أن دول الخليج كانت تمثّل السوق الرئيسية للدراما السورية، وهذه الدول باتت تمارس انتقائية في الشراء تتناسب وسياسات حكوماتها بخصوص الأزمة السورية. فهي تحارب المخرجين والممثلين السوريين إذا اعتبرتهم من الموالاة، وتدعم أولئك المحسوبين على المعارضة. والتوجه الخليجي لا علاقة له بالفن ولكنه يحدّ من سوق انتشار العمل الدرامي السوري. طبعاً عندما تنحسر السوق العربية فمن الطبيعي ان يؤثّر ذلك على إنتاجنا. بعض المخرجين والفنانين والعاملين في السينما والتلفزيون في سوريا ما زالوا ينتجون بتمويل القطاع الخاص أو من خلال الدولة عبر المؤسسة العامة للانتاج. لكن منسوب الانتاج تراجع من أربعين مسلسلاً في العام الواحد إلى أربعة او ستة مسلسلات، مما أضرّ كثيراً بصناعة السينما والتلفزيون السورية وأثّر سلباً على الحركة الفنية في سوريا".
وعن فيلمه الأخير "مملكة الرمال"، أشار أنزور الى أنّ الفيلم "لم يتأثر بهذه المعوقات، لأنّ الممثلين هم من الاجانب أولاً ولأن هذا العمل كان إنتاجا عالمياً شرعتُ في إنجازه قبل اندلاع الأزمة السورية، وإن تزامن عرضه مع الأزمة".
وشرح المخرج أنّ ""مملكة الرمال" هو فيلم سينمائي تمثيلي، أي أنه عمل فنّي لكنه واقعي في بنائه وأقرب إلى التوثيق منه إلى الخيال. هو يعتمد على وثائق تاريخية مثبتة عن مسيرة مؤسس المملكة العربية السعودية عبد العزيز آل سعود. ومسيرته انطلقت من الكويت إلى نجد مدعوماً من الحكومة البريطانية في بدايات القرن الماضي لغزو مدينة الرياض والتخلّص من آل الرشيد الذين حكموها آنذاك بدعم عثماني. فيسرد الفيلم مجريات هذه الأحداث إلى أن استولى ابن سعود على الحكم وفرض سيطرته على مناطق شاسعة من الجزيرة العربية.
وقد استندنا بكتابة هذا العمل على وثائق تاريخية ومجموعة كبيرة من الكتب وكلّها موجودة لمن يريد الاطلاع عليها. ولا علاقة لهذا العمل بالأزمة السورية كما أشاع البعض، بل أتى كتطوّر منطقي لأعمالي وكتتويج لمسيرةٍ فنية ضد الارهاب بدأتهُا قبل عشر سنوات، بدءاً من مسلسل "الحور العين" (2005) إلى "المارقون" (2006) ثم "سقف العالم" (2007) ومسلسل "ما ملكت آيمانكم" الذي أحدث ضجة كبيرة عند بثه عام 2010".
ثمّ فصّل أنزور دوافعه لانتهاج هذه المسيرة، معتبرًا أنّ "الفكر الوهابي المتطرف يشكل الخطر الأكبر بعد "إسرائيل" على العالم العربي بشكلٍ خاص، وعلى الإنسانية جمعاء بشكل عام. والتهديد ليس على السوري وحده ولا العربي أو المسلم، بل إنّ الإرهاب بأفكاره وبذوره يهدّد البشرية وكل ما يجمع انسان إلى انسان في هذا العالم، بصرف النظر عن العرق أو الدين. تلك هي الرسالة التي يحاول فيلم "مملكة الرمال" أن يوصلها إلى الجمهور. لذلك تجدني أجول أوروبا والعالم أعرضه لكسر "التابو" التاريخي ونزع رداء القدسية عن شخصيات عربية نشأت حولها هالات وهمية عبر عشرات السنين. وأنا مصرّ على عرض "مملكة الرمال" في كل عاصمة اوروبية، كي يعرف المواطن الغربي أنّ الثمن الذي ندفعه نحن في سوريا اليوم قد يدفعه هو غداً في بلاده".
أما عن علاقة هذا العمل وما خلفه من دوافع، بالأزمة الحالية في سوريا، قال أنزور: "أنا فنان لا أعمل في السياسة، وككل مواطن سوري لدي موقفٌ من هذه الأزمة بقرار شخصي، موقف انساني ووطني وليس سياسياً بالمعنى التقليدي. وموقفي نابع من قناعتي التامة بأن التعايش الاجتماعي الموجود في سوريا هو المستهدف، وأنّ كلّ ما يحدث في المنطقة حالياً هو تخريبٌ لمبدأ التعايش وتمزيقٌ للنسيج الذي تم بناؤه بين الطوائف والأديان في بلادنا عبر القرون. الفكر التكفيري الوهابي الذي تحمله الجماعات المسلحة يشكّل كما ذكرت خطراً علينا وعلى الانسانية. لذلك يجب ان نقف ضد هذا الفكر بغض النظر أكان موقفنا مع النظام أم لا. باختصار: أنا أشعر كفنان أني جندي في معركة والفيلم هو بندقيتي، ولي كامل الحق في الدفاع عن وجودي وهويتي الوطنية من خلال فضح التوجهات التكفيرية الدخيلة على النسيج السوري.
لقد تنبّأتُ في مسلسل "ما ملكت أيمانكم" بالأزمة السورية قبل حدوثها. هذا هو دور الفنان كما أفهمه، وأقصد محاولة قراءة ما بين السطور للوصول إلى استنتاجات تخدم الفن والثقافة والمجتمع بعيداً عن السياسة بشكلها المباشر. نحن كفنانين لا يمكن أن ننأى بأنفسنا عن أحداث بلادنا خوفاً من تهمة السياسة. وعندما أقول في أحاديثي أني مع الدولة السورية فهذا يعني أني ضد الفوضى والتخريب، إذ لا يمكن أن يكون لنا وجود ككيان وطني بدون وجود دولة جامعة ومنظمة لهذا الكيان. الأزمة السورية ليست وليدة المصادفة وليست وليدة اللحظة. بل مرّت سوريا بأزمات في القرن الماضي إلى يومنا هذا، وأحد أهم العوامل المشتركة بين أغلب الأزمات كانت حضور العنصرين التركي والسعودي بشكل سلبي على أرض سوريا. لا يطلبنّ أحدٌ من الفنان السوري والحال كما نراها اليوم أن يبتعد عن السياسة، لا اليوم ولا في المستقبل".
وحتى بعد انتهاء الأزمة، يعتبر أنزور الى أنّ الفنان لا يمكنه الابتعاد عن السياسة بمعنى التوقف عن تفاعله مع الأحداث كفنان، "فعمله مستمر والتزامه بقضايا مجتمعه مستمر وليس عبر الأحزاب والخطابات والبرلمانات، الخ، بل هو يعمل لنهضة المجتمع بقلمه وكاميرته وريشته. وستواجهنا بعد انتهاء الأزمة مشاكل اجتماعية وإنسانية هائلة، وهذه تحتاج إلى حلول تكلّف جهوداً فائقة وأموالاً طائلةً، كما علينا إعادة بناء الطفل السوري والمجتمع السوري، والتخلّص من بقايا البذور الشريرة التي تم زرعها في الارض السورية، ونحاول اليوم أن نواجهها لأنها أخطر من الهجمة المغولية والفرنجة. انظر إلى ما حدث في معلولا مثلاً. لا يمكن فهمه إلا كتخريب مقصود ولا سيما للقضاء على لغة السيد المسيح التي يتحدثها سكان هذه البلدة الوادعة".
وختم المخرج السوري حديثه بتأكيده أنّ "سوريا بدأت تعود بالفعل الى السلام والازدهار، وليس "سوف تعود". نحن متفائلون بل نحن لا نستطيع إلا أن نكون محكومين بالأمل".