ديوان "فصل من إنجيل الشعر" نموذجا. ج١-٣
د. آمنة الرميلي، كلية الآداب سوسة، تونس
الحدث - بالعودة إلى مجموع القصائد الواردة في ديوان الشاعر الفلسطيني منير مزْيد “ألواح كنعانية” نلاحظ بسهولة، منذ القراءة البصرية المجرّدة، أنّ الشاعر قد اختار لقصائده شكل “القصيدة الومضة”، يدلّ على ذلك شيوع هذا الشكل بقوّة في الديوان وهيمنته عليه هيمنة مطلقة. وسنعتبر انطلاقا من ذلك أنّ القصيدة “الومضة” هي نوعية “الفضاء» (éspace) الشعري الذي اختاره الشاعر عن وعي وعن قصد ليبني به كونه الشعري ويفاوض به جمهوره. ونبرّر عنايتنا بفضاء القصيدة بكونه مرتهنا ــ في نظرنا ــ باختيار جماليّ وبخطّة في بناء الخطاب يروم الشاعر أن تكون رابطته مع المتلقّي ومع الكون عموما. إنّها علامة من علامات الذّاتية، وأداة من أدوات الذّات في تسلّطها على عالم القصيدة بما أنّ شكل القصيدة أو نظام توسّعها أو معمارها على بياض الصّفحة يمثّل في حقيقة الأمر المساحة الزّمنيّة ــ اللغويّة التي اقتطعتها الذّات المتلفّظة من الوجود ومارست فيها تحقّقها داخل اللغة وباللغة طيلة عدد محدّد من البنى اللغويّة هي أسطر القصيدة أو أبياتها.
ولا يطمح هذا المقال إلى دراسة كلّ “الألواح” المكوّنة للدّيوان وإنّما سيكون الاكتفاء بالنظر في فصله الأوّل “فصل من إنجيل الشّعر”، نأخذه عيّنة على كامل الدّيوان.
خصوصيات الفضاء الشعري في “فصل من إنجيل الشعر”:
جاء الفضاء الشعري في هذا اللوح الأوّل فضاء زئبقيّا مترجرجا، فرغم ذهابنا المبدئيّ إلى أنّ الديوان مكوّن من مجموعة قصائد مقتضبة الشكل في أغلبها إلاّ أنّ ذلك لا يمنع من اعتبار “اللوح الأوّل” إمكانية بنيويّة لقصيدة مطوّلة، مكوّنة من مجموعة من المقاطع الشعريّة الداخلية، وهذا الحكم نستجليه من غياب العناوين الدّاخليّة، إذ لم تحمل أيّة قصيدة في الديوان عنوانا يخصّها، وتحرّكت هذه القصائد ــ المقاطع في ظلّ العنوان الأوّل أو العنوان “الأب” الموسوم بـ”فصل من إنجيل الشعر”، المتناسل بدوره عن عنوان آخر هو “اللوح الأوّل”، ولعلّ شكل الفضاء هنا مردود إلى صورة في قاع وعي الشاعر مستمدّة من بنية السّورة في القرآن وما تتكوّن منه من آيات متّصلة منفصلة في الآن ذاته. وقد بلغ عدد القصائد إحدى وسبعين (71) قصيدة مثّلت كلّ منها فضاء مستقلاّ بذاته، وعالما تعبيريّا في ذاته، ينغلق على عوالمه الدّلاليّة والإيقاعيّة والمعجميّة، بنية منغلقة مفتوحة في آن، واسعة وضيّقة، كلّية وجزئيّة في الوقت نفسه. ولئن كان الشعر ــ ككلّ الفنون الأخرى ــ لعبة فنّية على حدّ عبارة “سورل (J. Searle)” فإنّها لعبة غير بريئة، وإنّما هي حمّالة رؤى ووجهات نظر. والرّؤيا الشعرية مخترقة بطبعها بالرّؤية، أي بنظرة الشاعر إلى الوجود وتمثُّله الواعي واللّاواعي للكون. ويبدو الكون عند منير مزيد كونا متشظّيا، مملوءا بالأجزاء، يعجّ بالتنافر والاختلاف، ولكنّه كون ملفوف بالتوحّد، تتماسّ أجزاؤه وتلتقي، شاءت أم أبت. وهي رؤية كونيّة كوسميكيّة بامتياز ترفض أن تنفي الآخر ولكنّها أيضا لا تذوب فيه. ويبدو أنّ الشاعر يتحرّك هنا في ضوء فكرة “دريدا” عن بنية العالم سواء في مستواه الفلسفي أو الفنّي.
إنّنا نتعامل مع القصائد المكوّنة لهذا اللّوح باعتبارها هيآت في الكلام وصنوفا من الفضاءات ارتآها الشاعر واختار أن يتبادل بها الإشارة مع الآخر ويحمله على الانخراط في مشروعه الجماليّ. وتشترط القراءة الحديثة ألاّ تنبني على انطباع أو توهّم أو اختلاق رأي وإنّما تنطلق من لغة النص ومن علاماته المميّزة، وبالتالي من الظواهر الفنية التي تخيّرها الشاعر من بين إمكانيات أخرى متاحة وبنى بها كونه الشعري. وقد كانت أولى العلامات الدّالّة على خصائص الذّاتية الأدبية “حيّز” القصائد أو نظام توسّعها، ونقصد به عدد الأسطر الشعريّة الذي حوته كلّ قصيدة، حيّزا تراوح في ديوان مزيد ما بين ثلاثة(3) أسطر وأربعة عشر سطرا (14)، لتتراوح البنى ما بين الومضة والقصيدة، وقد أمكننا الخروج بالخارطة التوزيعية التالية:
حيّز القصيدة تواتره في الديوان
3 أسطر 1 (قصيدة واحدة)
4 س 19 قصيدة
5 س 15 ق
6 س 10 ق
7 س 4 ق
8 س 7 ق
9 س 9 ق
10 س 1 قصيدة واحدة
12 س قصيدتان
13 س قصيدة واحدة
14 س قصيدتان
نتبيّن من خلال الجدول الميل الواضح إلى “الومضة”، بل كانت هي الاختيار الجوهري لبناء فضاء القصيدة، وهي البنية المهيمنة على الفعل الإنشائي برمّته، الحاملة لرؤية الذّات المبدعة إلى هذا الفعل، وهي رؤية فسّرها “مونتاندون (A. Montandon)” في كتابه “الأشكال المقتضبة(Les formes brèves)” بأنّها أشكال دالّة على وعي مرهف بالمرور العابر في الوجود (L’éphemère)، عبور الزّمن، وعبور اللحظة الفنّية أو لحظة الخلق، وعبور الحياة بسمتها العرَضيّة السّريعة كأنّها المرور تحت ظلّ شجرة!
وما دمنا نتحدّث عن “الومضة” باعتبارها ملمحا من ملامح الذات في بناء فضاء القصيدة عند منير مزيد فإنّنا نشير إلى أنّ ظاهرة الشكل المقتضب مثل “القطعة” الشعرية أو “المقطّعة” ليست ظاهرة مستوردة في الشعر العربي، ولا غريبة عنه ولا هي ناتجة عن تأثّر ميكانيكي بـ”الهايكو” الياباني، أو ببعض رموز الشعر الغربي الحديث الذين سلكوا مسلك القصيدة الومضة مثل “أبولينار (Apollinaire)” “شيلر(Schiller)” ما قد يتبادر إلى الذّهن، بل ينتمي منير مزيد إلى ذاكرة شعرية عربية احتفت منذ القديم بهذا النوع من البُنى، كان العرب يطلقون عليها “القصار” في مقارنة فنية مع “الطّوال” (ابن رشيق القيرواني، باب القطع والطّوال، العمدة، ج1، ص 186)، وقد دافع القدامى عن هذا الشكل من أشكال الأقاويل الشعرية، وتنبّهوا إلى مدى القوّة الفنّية التي يمكن أن تحويها قصار القصائد وتعجز عنها الطّوال، قال ابن الزِّبعْرَى مدافعا عن “قصاره”: “إنّها أَوْلَجُ في المسامع وأَجْوَلُ في المحافل”، ولا نستطيع إلاّ أن نقف بإجلال أمام هذا التيقّظ الغريب لقوّة الشكل المقتضب ولهذا التمثّل العميق لوظائفه التّأثيريّة، ينضاف إلى ذلك ما لمسناه من جسور فنية بين تجربتي مزيد والشاعر الفرنسي الكبير “بودلير”، سواء في ركوب الرّمز أو في الولع بالأجواء الأسطوريّة الرّاشحة بالتلوينات الفلسفيّة، وقد كان “بودلير” حاضرا حضورا مباشرا في إحدى قصائد الديوان (ق 52، ص 55)، و”بودلير” هو القائل “أمّا بالنّسبة إلى الطّوال..فهي مورد الذين يعجزون عن إنجاز القصائد المقتضبة».
وضمن نظرنا في تشكيل هيأة الكلام في قصائد مزيد استوقفتنا علامتان أخريان رأينا أنّهما تستحقّان الإنصات إليهما، تمثّلت الأولى في هيمنة الومضات المكوّنة من أربعة أسطر (19 قصيدة)، أربع حركات داخلية تكتمل بها دورة النصّ كأنّها “الرّباعية” في مجال العزف والموسيقى وبالتّحديد في المقامات الشرقية، أو كأنّها “النّتفة” في الشعر العربي القديم حيث لا يجاوز حيّز القصيدة بيتين اثنين أي أربعة مصاريع. وتتمثّل العلامة الثانية في غلبة القصائد المبنيّة على “الزوج» (paire)، فقد بلغ عدد القصائد زوجيّة الأبيات (4 ـ 6 ـ 8 ـ 10 ـ 12 ـ 14) إحدى وأربعين (41) قصيدة، ولعلّ للأمر صلة ببنية الصّدر والعجز في البيت الشعري القديم، في حين كان نصيب القصائد فرديّة العدد(impaire) (3 ـ 5 ـ 7 ـ 9 ـ 13) ثلاثين (30) قصيدة، نصفها جاء في شكل ومضات مكوّنة من خمسة أسطر، فهل بالإمكان القول إنّ بناء فضاء القصيدة على الرّقم “خمسة” بهذه الكثافة اللاّفتة لانتباه القارئ متعلّق بما نسمّيه “الذّاكرة السّحيقة” لدى الذات المبدعة، نظرا إلى ما يحيط بهذا الرّقم من هالات سحرية قداسيّة عند العرب القدامى سواء قبل الإسلام أو بعده؟ ليست لنا إجابة مؤكّدة ولكنّ المؤكّد أنّ لكلّ علامة مهيمنة في خطاب مّا دلالة ومقصدا فلا اعتباطيّة في الفنّ، وإنّما الأمر مردود إلى طرائق الذّات المنشئة في بناء خطابها وفي رسم مسالك الدّلالة التي ستقودها نحو القارئ.
استنادا إلى عنوان هذا المقال “فضاء الذات، ذاتية الفضاء” فإنّنا ننتقل من النّظر في هيأة القصيدة الخارجية إلى محاولة رصد مكوّناتها الدّاخلية، ومن العناية بشكل الفضاء الخارجي المقروء بالعين المجرّدة إلى نوعيّة الفضاء الدّاخلي للقصائد وإلى أدوات الشاعر في رسم خطوطها وضبط تلوينها الدّلالي. وسنكون ملزمين هنا بالاختيار، لأنّ أشعار منير مزيد قادرة على فتح منافذ متعدّدة للتّأويل، وعلى بسط إمكانيات واسعة للتدبّر والبحث أمام القارئ، وقد اخترنا أن نوجّه عنايتنا إلى لعبة “التناصّ” وطرائق الذات المنشئة في بناء “الأقنعة” النصية داخل “فصل من إنجيل الشعر”، مبرّرنا في ذلك ما توصّلنا إلى رصده من تشابك النصوص وتواشجها داخل قصيدة مزيد بنوع من الإتقان والقدرة على النّسج وخلط الألوان ما يحقّق لتجربته فرادتها، ومقصدنا تقديم قراءة لهذه التجربة قد تفتح عليها نافذة أخرى من نوافذ الاستقراء والاستقصاء.
وقد ارتأينا أن ننطلق من مفهوم منير مزيد للشّعر ومن تصوّره الخاصّ للفعل الإبداعي حتى نقترب قدر الإمكان من جوهر لحظة الإنشاء عنده ومن خصوصيّة المدرك الفنّي عنده وهو يشكّل فضاءه الشعري ويعيد بناء ذاته باللغة. ولن نلتفت كثيرا إلى نصوص مزيد النّظريّة في الشعر ومفهومه وفي اشتراطات القصيدة الحديثة ومحدّداتها الفنية والإيديولوجية وإنّما آثرنا الانطلاق ممّا جاء في الدّيوان من “شعر على الشّعر” أو كلام على الكلام”، حوته مواطن عدّة في “فصل من إنجيل الشعر»