الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

عن الشوق والحنين وانتظار ما لا يجيء ..

2014-03-04 00:00:00
عن الشوق والحنين وانتظار ما لا يجيء ..
صورة ارشيفية

إذا قالتْ حذامِ:

الحدث - ورود الموسوي- لندن

هي ليست قصةٌ من وحي الخيال .. بل هي من خيال الواقع الذي باتَ فنتازياً لدرجة ينعدم معها الخيال!

الباب منغلقٌ كلما همّت بفتحه أصابها الذعر من الضوء المنبعث من الشارع .. كثيراً ما تسمّرتْ وراء الباب بعينيها الغائرتين ووجهها الصغير المحفور بالتجاعيد لترقب المارة ..! 

لم يكن أحد هناك إلاّي وشمس الظهيرة .. حين لوّحت لي:

 أنْ تعالي 

 لم أكنْ أعرف مَن هي كاثرين او (كـاتِـلي) كما يحلو لها أنْ ينادوها.

 لكني الآن أقفُ لأول مرة في حياتي أمام امرأة بربع ذاكرة .. لا تحمل فيما بقيَ سوى أحلام صغيرة، قطعة حلوى كانت تشتهيها ذات زمن مر، كأسٌ من البيرة او الشّامبانيا التي لم تشربها طيلة تسعين عاماً من عمرها المنحوس - هكذا أخبرتني - وقبل أن أسألها انْدلق الكلامُ من صوتها الخافت.

  كل شيء محشوك بصدرها وبلهجة طفل يتعثر بالكلام حدّقت في الطريق وأردفت:

- لم يعد بعد ....

يخرج كل يوم في السادسة والنصف ... لا لا يا كاتلي السابعة صباحاً ويعود في الثامنة مساءً ..

تأخّر كثيراً .. ما زلتُ أنتظره حتى يعود..!

وبحذرٍ دنوتُ منها 

- مَنْ هو؟

- اووووه ألا تعرفيه...؟

 إنّه مايكل 

 وسيمٌ جداً لا يرضى لي الخروج خوف أن يراني أحد .. لا أدري لماذا أتصرفُ بغباء دوماً 

(أنا غبية) كنتُ وسأظلّ !!

 تصوري؟؟ أنّي خرجتُ من يومين للحانةِ المجاورة .. لم يكن معيَ المبلغ المطلوب ..

 هــاه .. كان يعوزني خمسون بنساً ...

 وأخذت تعد نقوداً كانت بيدها..

 - نعم خمسون فقط... مشيتُ طويلا وحين وصلتُ الحانة انتابني الذعر.. يا إلهي ماذا لو رآني مايكل وأنا في الحانة؟ ماذا كان ليفعل؟ لابد أنّه سيغضب مني.. لا أُريد إغضابه إنه وسيمٌ جدا..

وبنصف خوف تَسَاءَلتْ:

- لماذا رُحتُ لتلك الحانة؟ 

كم أنا غبية! لم أفعلها أبدا.. قبل ستينَ عاماً حينَ كنتُ بنتاً لم أجلس في حانة 

 لماذا الآن...؟

 آآآه تذكّرتْ.. راقني جلوسهم هناك .. بل ليس جلوسهم 

نعم إنّهُ ذاك المقعدُ الخشبي في الركن القريب من المِدْفَأَة ..! 

كم أعشقُ النار وكم أعشق الخشب.. 

وبنصف التفاتة من عينيها الغائرتين محاولة إقناعي بتصديقها

- الحانة ليست بعيدة صدقيني.. لكنّ مايكل لا يرضى أن يراني خارجاً.. سيغضب وربما يهجر المنزل ولن يعود..!

كنتُ أتساقط مع كلماتها وعالمها الطفولي.. كنتُ أراها مسجونة في ربع صندوق هو كلُّ ما بقيَ منها .. 

 يا إلهي كيف يمكن لي أن أتصوّر عالم كاثرين! هذه الطفلة العجوز...!

لم أعرف من هو مايكل لكني قررتُ أن أعرف كل ما اختزنته ذاكرتها في صندوقها الرُبْعيّ ..!

- مَنْ هو مايكل..؟ وهل أنت لندنيّة..؟

- أنا؟؟ لا لا  لست من لندن. أصلي من نوتنغهام .. ولدتُ هناك حتى تزوجت .. لم اُرزق بغيره ... مايكل .. يُشبه أخي كثيراً .. أخي كان شاباً وسيماً أيضاً لكنه كان لعوباً لم تسلم منه فتاة 

هــه ..

 كان يرتاد الحانات كثيراً  وكان أبي على حق حين قرر حرمانه من الميراث.

 لكني أحب هذا البيت هنا تزوجت وهنا جاء مايكل 

سبعونَ عاماً وأنا أقف على الباب أنتظره 

وبنظرةٍ راحت تمسح الشوارع بعينيها:

المكان لم يعد مثلما كان. لم تكن هناك بنايات عالية بهذا الحجم .. أخاف أن أخرج كي لا أضيع لأني نسيتُ شكل شارعنا القديم .. مَن محى الحقول والمزارع ...؟

 هل ترين هناك..؟؟ إنّه  النّهر..

 كان يعرف اني أعشق النهر ..  لذا بنى لي هذا البيت ...كم أشتاق رائحته الآن. 

وبحذر أكبر كنتُ أمُدُّ يدي لأضعها على يدها وبما يُشبه الهمس:

- هل تودين الذهاب معي الى ضفة النّهر؟ أنا ذاهبة اليه الآن 

 وبخوف جاد جحظت عيناها ثم غارتا مجدداً .. أعشق النهر.. لكن مايكل حذرني من مرافقة الغرباء..! لكنكِ صديقة.. أليس كذلك؟ 

- نعم نعم صديقة دون شك.. ودون انتظار لسؤالي أردفت:

 مايكل دخل عامه السبعين.. ولم يعد بعد.. اُريده أن يعود.. ليته يعود.. سئمتُ انتظاراً 

- كم الساعة..؟

- اممممم الثالثة والربع عصراً 

 ما زال الوقت بطيئاً... لن يعد قبل الثامنة 

استدارت ودون أن تغلق دهشتي أغلقت الباب  وراءها دون أن تشعر انها كانت تحدّث أحداً

ثلاث سنوات مرّت ولم أعد لكاثرين ولم أعرف عنها شيئاً ..

 اليوم... هذه اللحظةُ تحديداً مررتُ ببيتها... الباب الموصد ذاته... لكنها الساعة الثالثة موعد وقوفها عند عتبته .. وقتُ انتظارها للذي لا يعود .... هو ذات الوقت الذي اعتدتُ أنْ أرَها واُحادثها طيلة عام كامل ..!

انتظرتُها علّها تخرج لكني لم أجدها

 رأيتُ جارها –عجوزٌ هو الآخر- 

- عذراً ... هل تعرف شيئاً عن صاحبة هذا البيت..؟ السيدة كاثرين  أو كاتلي ..!

- آآآآه كانت تعيش هنا ... تقصدين العجوز التي تنتظر ابنها ...؟

 وقبل أن اجيب .. هز رأسه آسِفاً ..

خرجت منذ شهور كعادتها كل يوم لكنها  لم تعد...ولم يُعثر عليها بعد...!

أتساءلُ بعد أجيالٍ من الخيبات والانتكاسات والحروب النفسية والتاريخية .. هل سيأتي الذي ننتظره.. وهل لدينا فعلاً ما ننتظره كشعوبٍ تحاول الحياة بالممكن ..؟ وهل سيعود المغتربون الى أوطانهم محفوفين بالسلام الذي صارَ شمّاعةً للأماني ..! وهل مازالت الأماني ممكنة...؟

وهل يعرفُ أحدٌ منكم إن كانت كاثرين قد ماتت قبل أن ترى ابنها الوحيد .. أم أنها مازالت على قيد الحلم والامنياتِ مثلنا..؟