الحدث - وكالات
في كتابه "أسلحة صامتة لحروب هادئة" يقول الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي: "حافظ على تشتت اهتمام العامة، بعيدًا عن المشاكل الحقيقية، واجعل هذه الاهتمامات موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية حقيقية، اجعل الشعب منشغلًا منشغلًا منشغلًا، دون أن يكون له أي وقت للتفكير."
يبدو أن عملية إلهاء الشعوب عن الاهتمام بالقضايا الأساسية قد أصبحت في عصرنا هذا صناعة وفن، تنفق لها الحكومات أكثر مما تنفق للمشاريع التنموية. وكانت قد ظهرت كإستراتيجية عبر التاريخ، منذ ظهور التنظيم السياسي. ثم عرفت انعطافًا منقطع النظير عندما دخلت في العصر الجديد، فبعدما كان يمارسها الحكام في إطار شعوبهم، أصبح يسوقها الإستعمار على الشعوب المستعمرة، لإلهائها عن النهوض لقضاياها الجدية، إلى الإنغماس الأعمى بقضايا تُفصِّلها خصيصًا لهذه الشعوب، على مقاس غرائزيتهم. والشواهد عليها لا تنضب على جميع الصعد، وخاصة الطائفية منها والعرقية.
ويبدو أيضًا أننا نعيش اليوم في العصر الذهبي لاستراتيجية الإلهاء.وهي متجسدةٌ حاضرةٌ بكل مخرجاتها فيما يُعرف بالشرق الأوسط. وفي ابتداعٍ وتبلورٍ متصاعد، إبتداءًا من سايكس بيكو الأول وفي طريقها الى سايكس بيكو الثاني. وما بين التقسيمين لهذه الأمة، وتفتيتها للقبض على ثرواتها، تقع القضيةُ الفلسطينيةُ نكبةً تتجددُ كل يوم. والواقع أن الاستعمار استطاع أن يسوق الشعوب العربية من أنظمتها، وكان قد عمل على تفخيخها منذ تأسيسها كي تبقى عاجزة عن أي مقاومة أو استنهاض. حتى أن الانظمة نفسها ما فتئ بعضها يتآمر على قضاياها، وعلى رأسها قضية فلسطين.
ثم في ذروة التخاذل برزت المقاومة الاسلامية في لبنان وأسقطت أسطورة الجيش الذي بقي ردحًا طويلًا من الزمن لا يقهر، بعد سلسلة هزائم عسكرية ونفسية متتالية. وبدأ عهد جديد من النهوض والمقاومة، تحت شعار "أمريكا الشيطان الأكبر" و "اسرائيل شرّ مطلق". واستطاعت المقاومة أن تحافظ على قميصها ناصع البياض بعدما قامت على الصدقية في طرح الأمور، مستفيدة من انجازاتها وانتصاراتها المتتالية، وتوازن الرعب الذي أرسته مع العدو الإسرائيلي. حتى رسخت في أذهان الشعوب أنها الطريق الوحيد للتخلص من براثن الاحتلال والاستعمار.
وبعدما فشلت مقدمات الشرق الأوسط الجديد المتمثلة بحرب تموز عن تصفية المقاومة، بمساعدة داخلية وتشجيع إقليمي أصبح معروفًا وحتى مجاهرًا به، وقعت حقبة فيلتمان الشهيرة، بدأت فيها الولايات المتحدة الأميركية حربًا على حزب الله من نوع آخر، يختصرها جيفري
فيلتمان عندما وقف يستعرض إنجازاته أمام الكونغرس الأميركي أنه أنفق 500 مليون دولار لاستهداف سمعة حزب الله.
ثم بدأ ما سمي بالربيع العربي الذي أضاف البلاد خرابًا الى فساد، وتفكيكًا إلى تشرذم. وتصاعد حزبُ الله قوةً إقليمية قادرة على إفشال مخططات التقسيم الجديدة، وفي نفس الوقت، عينها على العدوّ الصهيوني المتربص. فاتّسع إطار حملات التشهير وتطورت إلى محاولة شيطنة الحزب. محاولاتٌ تأتي أيضّا في إطار استراتيجي، "استراتيجية بناء الصورة الذهنية وإدارة السمعة"، تقام لها الدورات المكثفة في المنطقة، "لتحديد استراتيجياتها العلمية وربطها بأمثلة حقيقية في الواقع المحلي"، كما يشير برنامج إحدى الدورات التي نظمت في المملكة العربية السعودية.
أما الشواهد على محاولات الشيطنة فكثيرة لا يتسع لها المقال، ولعلّ أبرزها الحملة التي اعقبت الضجة الإعلامية التي أحدثتها وصية الشهيد مهدي ياغي، بعدما خرقت الأوساط المناهضة للحزب عام 2013. فكان الثأر بفبركة فيديو يدّعي أن مجموعة من مقاتلي حزب الله، يعدمون عناصر يفترض أنهم من مجموعات المعارضة السورية. ثم تعالت الأبواق في الداخل والخارج، للتنظير والتحليل، حتى لم يعد هناك بحسب تحليلاتهم واتهاماتهم أي فرق بين حزب الله وتنظيم القاعدة.
أما الشاهد الحيّ فهو "مجاعة مضايا" التي ابدع فيها التضليل الإعلامي إلى جانب استراتيجية الشيطنة ومن خلفهما استراتيجية الإلهاء. إذ جاء توقيتها بعد إعدام المعارض السعودي الشيخ نمر باقر النمر، الذي ما زال يثير ردود أفعال واسعة تضع المنطقة على شفير الهاوية. وفي نفس السياق، لا نحتاج الا ان نفتح التلفاز كي نرى ما يحصل في فلسطين ولفلسطين، وكيف يتم تأخير أخبار انتفاضة السكاكين، والقمع والقتل الذي يتعرض له الفلسطينيون، بدل أن تتصدر أخبارهم النشرات الإخبارية والصفحات الالكترونية وبرامج ومقالات والتحليل. وبدل ذلك تتصدر صور المجاعة المفبركة الشاشات بأنواعها، وتقوم الأبواق نفسها في الداخل والخارج بالتنظير والتحليل، حتى أصبحت (اسرائيل) "أكثر إنسانية من حزب الله"، ذلك ان "تاريخ الحصار على غزة لم يشهد التجويع، بل منع مواد البناء فقط". حتى ظننا أن نموذج حصار(اسرائيل) هو النموذج المثالي، ومنهم من رمى نفسه في انقاذِها.
هكذا، كلما صدحت الابواق الإعلامية، أدركنا أنه صوت النفير، لمعركةِ استنزافِ سمعة، وهكذا تُستخدم القوة الناعمة لتاثيرٍ أقوى وأثرٍ أكبر من القوة العسكرية، وهكذا أيضًا يسوق المثقفون المرتهنون الأمة، إلى مقابر التاريخ.