هل الصرف من الموازنة العامة للسلطة الفلسطينية قانوني؟
الحدث- د.عصام عابدين
الجواب: يجب عرض مشروع الموازنة العامة الفلسطينية للسنة المالية 2016 كاملاً في موعد زمني لا يتجاوز 1/11/2015 وفقاً للأصول الدستورية والقانونية الواردة في القانون الأساسي الفلسطيني المعدل وقانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية لعام 1998 وتعديلاته، واجبة الاتباع والاحترام، وفي حال لم يتم إنجاز مشروع الموازنة العامة 2016 كاملاً بما يشمل الجداول التفصيلية بالإيرادات والنفقات العامة وحساب الخزينة الموحد والمنح والمساعدات والدين العام وجداول تشكيلات الوظائف بما فيها مقترحات الوظائف الجديدة حسب الأصول والقانون، وهذا لم يحصل في الموعد الزمني المحدد، فهنالك مخالفة دستورية وقانونية وقعت من قبل الحكومة بشأن الموعد الزمني المحدد لتقديم مشروع الموازنة العامة.
وبالتالي، فإنه إذا لم يتم عرض الموازنة العامة على المجلس التشريعي، ومناقشتها على هذا الأساس، قبل بدء السنة المالية الجديدة 2016، فإن الصرف من الموازنة العامة في جميع أوجهه يكون غير دستوري وغير قانوني وذلك اعتباراً من تاريخ 1/1/2016، ما يعني بوضوح أن المناقشة التي جرت بالأمس بتاريخ 22/12/2015 لمشروع الموازنة العامة الفلسطينية في مجلس الوزراء لا تغير شيئاً في وجوب مراعاة الأصول الدستورية والقانونية في التعامل مع الموازنة العامة.
لأن قانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية رقم (7) لسنة 1998 وتعديلاته واضح تماماً فيما يتعلق بالموعد القانوني لتقديم الموازنة العامة، حيث تنص المادة (3/أ) من القانون المذكور الواردة تحت عنوان «تقديم مشروع قانون الموازنة العامة وإقراره» على ما يلي: «يقدم مجلس الوزراء مشروع قانون الموازنة العامة إلى المجلس التشريعي قبل شهرين على الأقل من بداية السنة المالية».
فيما تنص المادة (4) من القانون المذكور على ما يلي: “إذا لم يتيسر إقرار مشروع قانون الموازنة العامة قبل بدء السنة الجديدة يكون للوزارة سلطة تحصيل الإيرادات وفق الآليات والشروط والمعدلات المنصوص عليها في التشريعات المرعية ويستمر الإنفاق باعتمادات شهرية بنسبة 12/1 (واحد من الاثنى عشر) لكل شهر من موازنة السنة المالية المنصرمة بحد أقصى مدته ثلاثة أشهر”.
ولا يجب الخلط بين الموعد الدستوري والقانوني لعرض أو تقديم الموازنة من جهة، وبين مناقشتها من خلال جلسة خاصة للمجلس التشريعي من جهة أخرى، وعلى ذلك، فإن كون المجلس التشريعي موجود أو مُغيّب يستطيع أو لا يستطيع عقد جلسة برلمانية خاصة حسب الأصول لمناقشة مشروع موازنة 2016 لا يغير شيئاً من وجوب قيام الحكومة بتنفيذ التزامها الدستوري المتمثل بتقديم الموازنة العامة في موعدها الدستوري بجميع الظروف والأحوال.
وحتى في ظل غياب أو تغييب المجلس التشريعي، فإن كل عضو من أعضاء المجلس التشريعي لا يزال يمتلك الحق الدستوري في مناقشة مشروع الموازنة العامة المكفول في المادة (56) من القانون الأساسي الفلسطيني المعدل التي تؤكد بالنص الصريح على أن "لكل عضو من أعضاء المجلس التشريعي الحق في التقدم إلى السلطة التنفيذية بكل الطلبات الضرورية والمشروعة اللازمة لتمكينه من ممارسة مهامه النيابة".
وبالتالي، فإن قانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية، كما القانون الأساسي الفلسطيني المعدل، يُفرّق تماماً بين الموعد الزمني لتقديم الموازنة العامة والذي يجب أن لا يتجاوز تاريخ 1/11/2015 كحد أقصى فيما يتعلق بموازنة 2016 حسب النص القانوني المذكور، وبين مسألة إقرار الموازنة العامة التي تحتاج بداية إلى تقديمها في الموعد القانوني ومن ثم تعذر إقرارها قبل بدء السنة المالية الجديدة ومن ثم يُصار إلى الاستمرار في الانفاق بنسبة 12/1 من موازنة السنة المالية المنصرمة.
ولكن في المقابل، فإن قانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية قد وضع سقفاً زمنياً أعلى للإنفاق باعتمادات شهرية بنسبة 12/1 من موازنة السنة المالية المنصرمة، وهذا الحد الأقصى يجب أن لا يتجاوز مدة ثلاثة أشهر تنتهي بتاريخ 2016/3/31 من السنة المالية الجديدة.
وللتأكيد أيضاً على عدم قانونية الصرف من حساب الخزينة العامة اعتباراً من 1/1/2016 نتيجة عدم الالتزام بالموعد الدستوري والقانوني في تقديم مشروع موازنة 2016، فقد نصت المادة (15) من قانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية على ما يلي: «باستثناء ما ورد فيه نص ضمن أحكام هذا القانون أو أي قانون أو تشريع آخر، لا يحق لأي فرد أو مؤسسة عامة أو أية جهة تنفيذية أخرى في السلطة الوطنية دفع أية مبالغ من الصندوق الموحد أو عقد أي التزام يترتب عليه دفع أية مبالغ لاحقاً». وحيث أنه لا يوجد أساس قانوني يخول الحكومة صرف أية مبالغ مالية من حساب الخزينة اعتباراً من تاريخ 1/1/2016 فإن هذا الصرف محظور بموجب القانون وتتحمل الحكومة مسؤوليته.
وللمزيد من التأكيد، فقد نصت المادة (44) من قانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية الواردة تحت عنوان «المحظورات» على ما يلي: “لا يجوز الصرف على أية نفقة لم يُرصد لها مخصص في قانون الموازنة العامة كما لا يجوز استخدام المخصصات في غير الغاية التي اعتمدت من أجلها”.
ماذا عن فقرة إقرار موازنة 2016 في البيان الصحفي للحكومة؟
ورد في البيان الصحفي للحكومة، الصادر عقب جلستها التي عقدت بتاريخ 5/1/2016 ما يلي: "أقر مجلس الوزراء خلال جلسته الأسبوعية التي عقدها اليوم الثلاثاء في مدينة رام الله برئاسة الدكتور رامي الحمد الله رئيس الوزراء، الموازنة العامة لدولة فلسطين للسنة المالية 2016، بعد المناقشات التي أجراها المجلس للموازنة العامة في جلستيه السابقتين، والتوافق على مشروع الموازنة العامة مع رؤساء الكتل البرلمانية في المجلس التشريعي الفلسطيني، وسيتم إحالتها لسيادة الرئيس محمود عباس للمصادقة على مشروع القانون الخاص بذلك وإصداره وفق الأصول بعد أن يتم التوافق عليها مع مجموعة العمل الخاصة بالشأن المالي والاقتصادي في المجلس التشريعي الفلسطيني. وأشاد المجلس بتحقيق هذا الإنجاز مع بدء السنة المالية لأول مرة منذ سنوات ..".
السؤال الأول: ما المقصود بعرض مشروع الموازنة العامة 2016 على المجلس التشريعي؟
الإجابة: علينا أن نفهم ماذا تعني الموازنة العامة أولاً، للإجابة على السؤال، إنها تعني وفقاً للمادة الأولى من قانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية لعام 1998 وتعديلاته (التعريفات) ما يلي "برنامج مفصّل لنفقات السلطة الوطنية وإيراداتها لسنة مالية معينة ويشمل التقديرات السنوية لإيرادات السلطة الوطنية والمنح والقروض والمتحصلات الأخرى لها والنفقات والمدفوعات المختلفة". وبالرجوع إلى البيان المنشور على الموقع الرسمي للمجلس التشريعي المؤرخ في 28/12/2015 والمعنون " بأجواء إيجابية ومسؤولة .. هيئة الكتل والقوائم البرلمانية تتسلم وتناقش مشروع الموازنة العامة للعام 2016" نجد أن السيد وزير المالية قد عرض الإطار العام والخطوط العريضة والمبادىء العامة لمشروع موازنة 2016، وهذا لا يعتبر عرضاً قانونياً للموازنة العامة بمفهومها الوادر في القانون، بما يشكل مخالفة واضحة للقانون الأساسي المعدل وقانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية.
السؤال الثاني: ما المقصود بعبارة التوافق على مشروع الموازنة العامة مع رؤساء الكتل البرلمانية؟
الإجابة: علينا أن نبحث عن المعنى القانوني لعبارة "الكتلة البرلمانية" للإجابة على السؤال، إنها تعني وفقاً للمادة (5) من النظام الداخلي للمجلس التشريعي والمادة (18) من قانون واجبات وحقوق أعضاء المجلس التشريعي رقم (10) لسنة 2004 ما يلي: تجمُّع لعدد من الأعضاء تجمعهم أهداف أو مصالح مشتركة في كتلة برلمانية شريطة ألا يقل عددهم عن نسبة 5% من مجموع عدد أعضاء المجلس. وبالرجوع إلى البيان المذكور المنشور على موقع المجلس التشريعي نجد أن الاجتماع الذي أشار إليه بيان مجلس الوزراء بشأن عرض مشروع موازنة 2016 قد جرى مع رئيس كتلة برلمانية واحدة فقط، وأربعة أعضاء من المجلس التشريعي، من أصل 132 عضواً، مع الاحترام لكافة السادة النواب، وليس مع "رؤساء الكتل البرلمانية" كما ورد في بيان الحكومة مع الاحترام. هذا مع الإشارة إلى أن عبارة "القوائم البرلمانية" الواردة في بيان المجلس التشريعي تتعلق بقانون الانتخابات العامة ومرحلة الانتخابات فقط، ولا علاقة لها بالتشريعات الناظمة لعمل المجلس التشريعي بعد بدء ولايته.
السؤال الثالث: هل هنالك تناقض بين بيان الحكومة وبيان التشريعي حول التوافق على موازنة 2016؟
الإجابة: يبدو الأمر كذلك، ففي حين يؤكد بيان الحكومة على أن إقرار موازنة 2016 جاء بعد التوافق على مشروع الموازنة العامة مع "رؤساء الكتل البرلمانية" في المجلس التشريعي الفلسطيني وأن المصادقة على المشروع وإصداره ستتم بعد أن يجري التوافق عليه مع "مجموعة العمل الخاصة بالشأن المالي والاقتصادي في المجلس التشريعي"، نجد أن الفقرة الأخيرة من بيان المجلس التشريعي أعلاه المؤرخ في 28/12/2015 تؤكد أنه قد جرى الاتفاق مع السيد وزير المالية في الاجتماع على أن يُصار إلى عقد اجتماع آخر لاستكمال نقاش وإقرار مشروع الموازنة العامة في "اجتماع موسع مع جميع النواب والمجموعة المتخصصة" في الأسبوع الأول من شهر كانون الثاني القادم 2016. وهنا نلاحظ أن الاجتماع اللاحق الذي جرى في مقر المجلس التشريعي برام الله بتاريخ 6/1/2016 قد جاء وفقاً لما أشار إليه بيان الحكومة وخلافاً للتأكيد الوارد في البيان السابق للتشريعي بهذا الخصوص.
السؤال الرابع: من هي الجهة المختصة قانوناً بدراسة مشروع الموازنة العامة وإبداء الرأي فيه؟
الإجابة: إنها لجنة الموازنة والشؤون المالية وهي إحدى اللجان الدائمة في المجلس التشريعي وفق نظامه الداخلي. وبحسب المادة (3) من قانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية والمادة (74) من النظام الداخلي للمجلس التشريعي فإنه يتوجب على مجلس الوزراء تقديم مشروع قانون الموازنة إلى المجلس التشريعي قبل شهرين على الأقل من بداية السنة المالية الجديدة، ومن ثم يحيل المجلس التشريعي المشروع إلى لجنة الموازنة والشؤون المالية لدراسته وإبداء الرأي فيه "تفصيلاً" وترفع توصياتها إلى المجلس بالهيئة العامة لاتخاذ المقتضى اللازم بشأنه حسب الأصول الدستورية والقانونية المبينة في القانون الأساسي المعدل (مادة61) وقانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية (مادة 3) والنظام الداخلي للمجلس التشريعي (مادة 74). مع الأخذ بعين الاعتبار أن مصطلح " مجموعة العمل الخاصة بالشأن المالي والاقتصادي في المجلس التشريعي" وما يقابله في بيان المجلس التشريعي غير وارد على الإطلاق في التشريعات التي تنظم دورة الموازنة العامة بأكملها. وتلك المصطلحات، لا تعدو كونها اجتهاداً مرجعه المادة (56/1) من القانون الأساسي التي تتحدث عن حق "كل عضو" في التقدم إلى السلطة التنفيذية بكل الطلبات الضرورية والمشروعة اللازمة لتمكينه من ممارسة مهامه النيابية. وبالتالي لا علاقة للنص الدستوري المذكور بالجهة المخولة قانوناً بدراسة مشروع الموازنة العامة وإبداء الرأي فيه تفصيلاً وهي "لجنة الموازنة والشؤون المالية" وبالجهة المخولة قانوناً بإقرار الموازنة وهي المجلس التشريعي الفلسطيني بهيئته العامة.
السؤال الخامس: ماذا تعني عبارة المصادقة على مشروع الموازنة العامة وإصداره وفق الأصول؟
الإجابة: هنالك خلط واضح بين المصادقة والإصدار من جهة، وإقرار الموازنة العامة من جهة أخرى، في العبارة محور السؤال الواردة في البيان الصادر عن مجلس الوزراء، وذلك لأن مشروع الموازنة العامة لا يخضع، من الناحية الدستورية والقانونية، لإجراءات المصادقة أو الإصدار، وإنما يخضع للإقرار فقط، ومن المجلس التشريعي الفلسطيني حصراً؛ وفقاً لما أكدت عليه المادة (61) من القانون الأساسي المعدل والمادة (3) من قانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية والمادة (74) من النظام الداخلي للمجلس التشريعي، وبعد إقراره، من المجلس التشريعي، يُنشر قانون الموازنة العامة وفقاً لما هو مبين في نص المادة (38) من قانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية.
السؤال السادس: هل تُحل "المشكلة الدستورية" بإصدار مشروع الموازنة العامة بقرار بقانون؟
الإجابة: إن إجراءات عرض ومناقشة وإقرار الموازنة العامة والرقابة عليها هي إجراءات دستورية في المقام الأول، واردة على نحو واضح في القانون الأساسي المعدل، وبالتالي فإنه لا يمكن تغيير أو تعديل أو تبديل تلك الإجراءات الدستورية من خلال قرارات بقانون، لأن الأخيرة لها قوة القانون العادي الصادر عن البرلمان ليس إلاّ، ولا تستطيع أن تتجاوز إجراءات دستورية مؤكد عليها في القانون الأساسي بشأن الموازنة العامة، إعمالاً لمبدأ سمو الدستور، وتلك الإجراءات الدستورية تتناول عرض الموازنة العامة على المجلس التشريعي في موعد أقصاه شهرين على الأقل من بدء السنة المالية الجديدة، ووجوب عقد جلس خاصة للمجلس التشريعي لمناقشة وإقرار مشروع الموازنة بالتعديلات قبل بدء السنة المالية الجديدة أو إعادته للحكومة في مدة أقصاها شهر من تاريخ استلام المجلس لمشروع الموازنة مصحوباً بملاحظات المجلس التشريعي عليه لاستكمال المقتضيات المطلوبة وإعادته مرة أخرى للمجلس للمناقشة والإقرار، وكذلك وجوب التصويت على الموازنة باباً باباً، وعدم جواز إجراء المناقلة بين أبواب الموازنة إلاّ باتفاق بين المجلس التشريعي والحكومة، وما يتعلق أيضاً بعملية الاستمرار بالانفاق باعتمادات شهرية بنسبة 12/1 (واحد من اثنى عشر) لكل شهر من موازنة السنة المالية المنصرمة في حال تعذر إقرار مشروع الموازنة العامة من قبل المجلس التشريعي قبل بدء السنة المالية الجديدة. وبالتالي، فإن تلك المشكلة الدستورية، ستبقى مستمرة، إلى أن ينعقد المجلس التشريعي بهيئته العامة لمناقشة وإقرار مشروع الموازنة العامة حسب الأصول.
السؤال السابع: هل يمكن اعتبار إقرار موازنة 2016 إنجازاً على صعيد الالتزام بالمواعيد القانونية؟
الإجابة: يتوجب على الحكومة عرض مشروع الموازنة العامة (بالمفهوم القانوني) للسنة المالية 2016على المجلس التشريعي في موعده الدستوري والقانوني، وهو قبل "شهرين على الأقل" من بداية السنة المالية الجديدة، أي في موعد زمني أقصاه 1/11/2015 فيما يخص تقديم مشروع موازنة 2016، وإلاّ فهنالك خرق دستوري مؤكد للمادة (61) من القانون الأساسي المعدل وخرق قانوني مؤكد للمادة (3) من قانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية لجهة الموعد الزمني لتقديم مشروع الموازنة. وفي حال لم يجر احترام والالتزام بالمواعيد الدستورية والقانونية في تقديم مشروع الموازنة العامة فإن الإنفاق من حساب الخزينة العامة يكون غير قانوني في جميع أوجهه اعتباراً من تاريخ 1/1/2016.
هل الحكومة ملزمة بعرض موازنة 2016 على النقاش المجتمعي؟
الإجابة على هذا السؤال، غير مرتبطة، من حيث المبدأ، بوجود أو تغييب المجلس التشريعي، ورقابته على الأداء الحكومي والموازنة العامة، دون التقليل من أهمية الرقابة البرلمانية، بقدر ما تساهم في تشخيص واقع منظومة الشفافية والنزاهة والمساءلة كأساس للحكم الصالح، ومدى إيمان النظام السياسي القائم بحق الأفراد في المعرفة باعتباره الجيل الثالث من أجيال حقوق الإنسان، لأنه حقٌ للمجتمع ككل، تماماً كحق تقرير المصير في منظومة قيم حقوق الإنسان، ولا ينكره إلا نظامٌ قلقٌ مرتبكٌ لا يؤمن بحقوق الأفراد ومنغلقٌ على نفسه.
نعم، الحكومة ملزمة، دولياً وقانونياً ووطنياً وأخلاقياً، بعرض الموازنات العامة على النقاش المجتمعي، وبنشرها كاملة بعد إقرارها، وبالانفتاح على النقاش المجتمعي في مرحلة الرقابة على تنفيذها، وبالشراكة في الإطار الأشمل المتعلق بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تعد الموازنة العامة الأداة المالية لتنفيذها، والإ فما معنى الشراكة المجتمعية "الفعّالة" التي تتحدث عنها خطة التنمية الوطنية 2014- 2016 خلال عملية إعداد الخطة وفي مراحل تنفيذها وما مغزى إدماج معايير حقوق الإنسان في خطة التنمية التي يُفترض أنها ملزمة للحكومة؟!
المواطن الفلسطيني، يمول من جيبه نحو 70% من حجم الانفاق الحكومي، من خلال ما تجبيه الحكومة من الإيرادات الضريبية والجمركية المرتفعة التي تشكل 25% من الناتج المحلي، وقد بات غير قادر على الإطلاق على تحمل المزيد من الأعباء الضريبية، لحل الأزمة المالية للحكومة، المرشحة للمزيد من التفاقم لاعتبارات عديدة، على الحكومة أن تدرك هذه المعادلة جيداً، وأبعادها وتبعاتها المحتملة التي قد تقود نحو المجهول إذا ما أصرت على الاستمرار في نهجها الارتجالي وأدائها الذي يفتقر إلى سياسات اقتصادية واجتماعية واضحة المعالم والأهداف والأولويات، وفي التعامل مع الموازنة العامة على أنها مستودع أسرار لا تعني المواطن الفلسطيني!
ولأن المواطن الفلسطيني، هو المساهم الأبرز في تمويل الإنفاق الحكومي العام ب70% من حجمه، فإن من أبسط حقوقه المشاركة في رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية والمشاركة في دورة الموازنة كاملة إعداداً وتنفيذاً ورقابة على سلامة التنفيذ وحسن إدارة المال العام. وإذا كانت الحكومة حريصة على الانفتاح على الممولين الذين يساهمون من خلال المساعدات الخارجية المقدمة بنسبة ما تبقى من حجم الإنفاق الحكومي ، حرصاً منهم على بقاء واستمرارية السلطة، بمعزل عن الحكومة التي تتولى مقاليد السلطة، فمن باب أولى أن تنفتح الحكومة على النقاش المجتمعي مع الشريك والمساهم والممول الأبرز للإنفاق العام، لأنه قد يفاجىء صناع القرار بما في جعبته من خيارات مع استمرار سياسة التجاهل واللامبالات والارتجال واشتداد وطأة الأزمة المالية.
فسطين، انضمت للعديد من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، بدون تحفظات، ومن بينها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وعلى الحكومة أن تقدم تقريراً رسمياً شاملاً إلى اللجنة الدولية في الأمم المتحدة المعنية بتلك الاتفاقية الدولية يبين مدى احترامها والتزامها وإنفاذها للحقوق المكفولة فيها على المستوى التشريعي والسياساتي وفي الممارسة العملية في آن معاً، وهذا الالتزام الدولي يقع في صميم السياسات الاقتصادية والاجتماعية وأداتها الموازنة العامة، والحكومة مسؤولة عنه بالكامل أمام اللجنة الدولية المذكورة.
وبما أن الحكومة قد أعلنت مؤخراً خلال المؤتمر الذي جرى بمقر وزارة الخارجية عن بدء العمل على إنجاز التقرير الرسمي الخاص بالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فعليها أن تدرك جيداً أن المبادىء التوجيهية الدولية لتلك الاتفاقية، تلزمها بإشراك المجتمع المدني في رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وفي دورة الموازنة العامة بأكملها، وأن اللجنة الدولية المعنية بتلك الاتفاقية ستطرح العديد من الأسئلة على الوفد الحكومي الرسمي بهذا الخصوص بعد انجاز التقرير الحكومي وعرضه على جلسة المناقشة القادمة في جنيف، ومن الطبيعي أن تركز المنظمات الأهلية على واقع الشراكة المجتمعية في "تقريرها الموازي" للتقرير الحكومي على تلك الاتفاقية الدولية وفي نقاشها مع اللجنة الدولية حول مدى تنفيذ الحكومة لالتزامتها الدولية.
وإذا كان هنالك من لا زال يشكك بالحق في المشاركة المجتمعية في إعداد الموازنة العامة والرقابة على تنفيذها، وقد حرم الأفراد حتى من حقهم في الاطلاع على "موازنة المواطن" بلغة مبسطة بعد أن تراجعت عنها وزارة المالية، وهي تقع ضمن المعايير الدولية للحكم على مدى شفافية الموازنة والأداء، فمن الضروري أن يراجع أيضاً برنامج الإصلاح المالي الذي أعلن عنه وزير المالية السابق منذ مطلع العام 2003 وأقره المجلس التشريعي وقتئذ، وما زال ملزماً للحكومة ووزارة المالية، وقد أكد على النهج التشاركي في دورة الموازنة، ونشرها (بالمعنى القانوني) بعد إقرارها على الموقع الإلكتروني لوزارة المالية بحيث تكون في متناول الجميع، وهذا ما حرص قانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية لعام 1998 على التأكيد عليه في المادة (38) التي نصت على وجوب نشر الموازنة العامة بعد إقرارها "للإعلام العام والجمهور" وذلك من أجل ضمان الرقابة المجتمعية على مرحلة التنفيذ.
ومع ذلك نجد أن معالي وزير المالية، ومنذ العام 2014 ورغم العديد من الدعوات التي وجهت إليه من قبل الفريق الأهلي لدعم شفافية الموازنة العامة لحضور جلسات المكاشفة التي يعقدها الفريق على هذا الصعيد، إلاّ أن معاليه ما زال يتنصل من حضورها ومن النهج التشاركي في دورة الموازنة والرقابة على شفافيتها، خلافاً للنهج الذي كان متبعاً في السابق فيما يخص جلسات المكاشفة، بل إن وزارة المالية لم تنشر موازنة عام 2015 لغاية الآن مكتفية بنشر القرار بقانون بالمصادقة عليها على أنه الموازنة العامة للسنة المالية 2015 بمفهومها القانوني المبين في قانون تنظيم الموازنة العامة والشؤون المالية! وصولاً إلى البشرى التي زفتها الحكومة مؤخراً من خلال "بيانها الصحفي" الصادر بتاريخ 5/1/2016 وقد أشارت فيه بأنها أقرت الموازنة العامة للسنة المالية 2016 واعتبرته إنجازاً مع بدء السنة المالية لأول مرة منذ سنوات على حد ما ورد في البيان الصحفي المذكور!
حتى التشريعات القديمة "البالية" التي لا زالت نافذة لغاية الآن، ولم تخضع لأية مراجعة أو تعديل تشريعي، تلزم الحكومة بالانفتاح على المعنيين بمتابعة أنشطتها وبرامجها ومشاريعها وتسهيل مهمتهم، ومن بينهم الصحفيين للأهمية، ومع ذلك نجد أن وزارة المالية تختفي تماماً عن عدسات ومقابلات الصحفيين، علماً أن قانون المطبوعات والنشر لسنة 1995 النافذ، الذي لا يساهم البتة في تعزيز حرية الرأي والإعلام، يضع التزاماً قانونياً واضحاً على الحكومة وأجهزتها بهذا الخصوص عندما أكد صراحة في المادة (6) منه على وجوب أن تعمل كافة الجهات الرسمية على تسهيل مهمة "الصحفيين والباحثين" في الاطلاع على أنشطتها وبرامجها ومشاريعها.
وإذا كانت الاستراتيجيات الوطنية لمكافحة الفساد تحرص على إبراز أهمية المشاركة المجتمعية ودور المواطن الفلسطيني في إعدادها وتنفيذها، وقاية من الفساد وتوعية بمخاطره، وكشفاً عنه وملاحقة لمرتكبيه، فكيف يمكن للمواطن يا سادة أن يكون شريكاً حقيقياً يتجاوز دوره حدود السطور الواردة في الاستراتيجيات، وفي خطة التنمية الوطنية، وما زال مغيباً قسراً عن مجهول السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة وأداتها المالية الأبرز وهي الموازنة العامة في كامل دورتها، وعن عالم التشريعات والسياسات العامة وعملية صنع القرار!
ولا زال هنالك من يشكك وينكر ويتساءل عن مصدر الحق بالمشاركة المجتمعية في سياسات وموازنات الحكومة!