وسط الأهوال كافة التي برزت خلال الهجوم الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، يبدو هدف إسرائيل بسيطاً: التهدئة مقابل التهدئة وعودة الأمور إلى مجراها الطبيعي. وبالنسبة إلى الضفة الغربية، يقوم المجرى الطبيعي للأمور على استمرار إسرائيل في بناء المستوطنات والبنى التحتية بصورة غير شرعية حتى تتمكّن من ضمّ كلّ ما له قيمة إلى إسرائيل واحتجاز الفلسطينيين في كانتونات غير قابلة للحياة وإخضاعهم للقمع والعنف.
أما المجرى الطبيعي للأمور بالنسبة إلى قطاع غزة فهو العيش البائس تحت الحصار الوحشي والمدمّر الذي تفرضه إسرائيل. وقد أثارت حادثة القتل الوحشية لثلاثة صبيان يهود ينتمون إلى عائلة مستوطنة في الضفة الغربية، غيظ الإسرائيليين. وقبل شهر، قُتل صبيّان فلسطينيان رمياً بالرصاص في مدينة رام الله في الضفة الغربية من دون أن يلقى هذا الحدث اهتماماً كبيراً، وهو أمر مفهوم لأنه روتيني من وجهة نظر ثقافة الاحتلال.
ولا تنفكّ بعض وسائل الإعلام تردّد أنّ حركة «حماس» تسعى إلى تدمير إسرائيل. وفي الواقع، أوضح قادة «حماس» عدّة مرات أن الحركة مستعدّة للقبول بحلّ الدولتين تماشياً مع الإجماع الدولي عليه، والذي أعاقته الولايات المتحدّة وإسرائيل على مدى 40 سنة.
وفي المقابل، تسعى إسرائيل إلى تدمير فلسطين ناهيك عن بعض الكلمات الفارغة التي تطلقها وهي تمضي قدماً في مشروعها الاحتلالي.
ولا حاجة إلى إعادة فتح سجل إسرائيل الأسود. فقد تخلّلت الحصار المستمر والهجمات الوحشية فترات من «جزّ العشب» بالإحالة إلى التسمية التي يطلقها الإسرائيليون على تمارين قتل السمك في بركة وهي جزء ممّا تسميه تل أبيب بـ«حرب الدفاع». وقد أُعلن آخر اتفاق سابق لوقف إطلاق النار عقب الهجوم الإسرائيلي في شهر أكتوبر 2012. وعلى رغم أن إسرائيل أبقت على حصارها، فقد احترمت حركة «حماس» وقف إطلاق النار، وأقرت إسرائيل بذلك. إلا أنّ الأمور تغيّرت في شهر أبريل من هذا العام حين شكّلت حركتا «فتح» و«حماس» اتفاق وحدة أدى إلى قيام حكومة جديدة مؤلفة من تكنوقراط غير منتمين إلى أيّ من الحركتين.
وشعرت إسرائيل بغضب شديد ولاسيّما حين انضمت إدارة أوباما إلى الغرب في الإعراب عن موافقتها على هذا الاتفاق. وقد شعرت إسرائيل بوجوب «التحرّك» إزاء هذا الواقع. وسنحت لها الفرصة لتحقيق ذلك في 12 يونيو حين تمّ قتل ثلاثة صبيان إسرائيليين في الضفة الغربية. وعرفت حكومة نتنياهو على الفور أنهم قُتلوا إلا أنها ادّعت عدم معرفتها بالأمر، ما دفعها إلى شنّ هجوم على الضفة الغربية واستهداف حركة «حماس». وزعم نتنياهو أنه يملك معلومات تفيد بأن حركة «حماس» مسؤولة عن هذه الحادثة. إلا أنها كانت مجرّد كذبة.
وأعلن شلومي إيلدر، وهو أحد المتخصصين الإسرائيليين في شؤون حركة «حماس»، أن القتلة ينتمون على الأرجح إلى عائلة منشقة من مدينة الخليل التي طالما كانت شوكة في خاصرة «حماس». وأضاف إيلدر «أنا متأكد أنهم لم يحصلوا على الضوء الأخضر من قيادة حماس، بل رأوا أنه الوقت المناسب للتحرّك». ونجح الهجوم الذي دام 18 يوماً بعد عملية الاختطاف في تقويض حكومة الوحدة التي كانت تخيف إسرائيل وفي زيادة حدّة القمع الإسرائيلي. كما شنّت إسرائيل عشرات الهجمات في غزة وقتلت خمسة أعضاء من حركة «حماس» في 7 يوليو. وردّت الحركة بإطلاق أول صواريخها منذ 19 شهراً وأعطت إسرائيل ذريعة لشنّ عملية «الجرف الصامد» في 8 يوليو.
وبحلول 31 يوليو، قُتل نحو 1400 فلسطيني معظمهم من المدنيين بما في ذلك مئات من النساء والأطفال، إلى جانب سقوط ثلاثة مدنيين إسرائيليين. وتحوّلت مناطق واسعة من قطاع غزة إلى ركام. وتعرّضت أربعة مستشفيات لهجوم، الأمر الذي يرتقي إلى مصاف جرائم الحرب.
والغريب أن المسؤولين الإسرائيليين يتبجحون عادة بالحديث عن «إنسانية» ما يسمونه «الجيش الأكثر أخلاقية على وجه الأرض»، الذي يُعلم السكان بأنّ منازلهم ستتعرّض للقصف! وتتسم هذه الممارسات بصفة «السادية وتتخفى تحت غطاء الرحمة» على حدّ تعبير الصحفية الإسرائيلية أميرة هاس: «هناك رسالة مسجّلة تطلب من مئات الآلاف من الأشخاص الرحيل عن منازلهم المستهدفة إلى مكان آخر خطير أيضاً يبعد 10 كيلومترات». وفي الواقع، ما من مكان في سجن غزة الكبير في مأمن من السادية الإسرائيلية، التي تخطت الجرائم المقترفة خلال عملية «الرصاص المصبوب» في عام 2008 و2009.
وقد أثارت هذه الوقائع ردة فعل من أكثر الرؤساء أخلاقية في العالم، وأعني أوباما الذي أبدى تعاطفاً كبيراً مع الإسرائيليين وندّد بحركة «حماس» ودعا الطرفين إلى توخي الاعتدال! ومع نهاية هذا الهجوم، تأمل إسرائيل في أن تمضي قدماً بحرية تامة في سياساتها الإجرامية في الأراضي المحتلّة من دون أي تدخّل دولي.
إن هذه هي النتيجة المرجح حصولها في حال أبقت الولايات المتحدّة على دعمها الحاسم والأحادي للجرائم الإسرائيلية ورفضها للإجماع الدولي القائم منذ زمن طويل على ضرورة اعتماد حلّ دبلوماسي للأزمة. إلا أن المستقبل سيكون مختلفاً جداً في حال سحبت الولايات المتحدّة دعمها لإسرائيل.
وفي هذه الحالة، يمكن المضي قدماً باتجاه اعتماد «الحلّ الدائم» في غزة الذي دعا إليه وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وقد لاقى تنديداً في إسرائيل لأنه يمكن تفسير عبارته هذه على أنها دعوة لإنهاء الحصار الإسرائيلي والهجمات المتكررة. والأسوأ، من وجهة نظر تل أبيب، هو أنه يمكن تفسيرها أيضاً على أنها دعوة إلى تطبيق القانون الدولي في سائر الأراضي المحتلة.
وفي حالة قرّرت الولايات المتحدّة الانضمام إلى سائر دول العالم، فقد يكون وقع الضغط أكبر على تل أبيب. وقد اضطرت إسرائيل عدّة مرات في السابق للتخلّي عن مشاريع عزيزة عليها بناءً على طلب واشنطن. وهذا هو حال علاقة القوة بين الطرفين. وفضلاً عن ذلك، لا تملك إسرائيل أيضاً ملاذاً آخر بعد أن اعتمدت سياسات حوّلتها إلى بلد يتوجس منه الآخرون ويشعرون بالازدراء تجاهه في الوقت نفسه، وهي سياسات تتّبعها بتصميم أعمى.
ولكن، هل يمكن أن تتغيّر سياسة الولايات المتحدّة؟ ليس ذلك مستحيلاً. فقد تغيّر الرأي العام بشكل كبير في السنوات الأخيرة ولاسيّما في صفوف الشباب ولا يمكن إنكار ذلك أبداً. وعلى مدى سنوات، كانت ثمة أسس متينة للمطالب الشعبية التي تدعو واشنطن إلى احترام قوانينها الخاصة، وإلى تقليص المساعدة العسكرية لإسرائيل. وينصّ قانون الولايات المتحدة على أنه «لا يمكن تقديم مساعدة أمنية إلى أي بلد تقوم حكومته بخرق حقوق الإنسان المعترف بها دولياً بشكل مستمر». ولاشك أن إسرائيل مدمنة على انتهاج هذا النمط. وقد تطرّق السيناتور باتريك ليهي وهو مؤلف بند القانون هذا إلى انطباقه على إسرائيل في حالات محدّدة.
وقد يكون لهذا الأمر وقع مهم بحدّ ذاته إلى جانب توفير نقطة انطلاق للمزيد من التحركات التي من شأنها إجبار واشنطن على أن تصبح جزءاً من «المجتمع الدولي» وعلى احترام القانون الدولي ومعاييره أيضاً.