هذه الإمبراطوريَّات التي تَرَوْنَها في الغربِ، تحديداً، ومَعَ ما لَها مِنْ نفوذٍ في ساحات العام المختلفة؛ وبمكوناتها السياسية وبحكوماتها؛ ما هي إلاَّ إحدى مظاهر سلطة الشركات الرأسماليَّة العملاقة، مُتعَدِّدَة الجنسيات والعابرة للقارَّات؛ وهي ثمرة التحالف بين رأس المال والتكنولوجيا بكافَّةِ مظاهرها التَّطبيقيَّة من استغلال واستثمار الخامات والموارد إلى صناعة المواد الإستهلاكيَّة والخدمات، وهي ثمرة التَّحالف بين احتكارِ موارد الطَّاقة والنِّفطِ والسِّياسة.
فكثيرٌ من الَّذين احتلُّوا مواقع المسْؤولية؛ وتحديداً في الولايات المتحدة، تدرَّجوا من مدراءٍ عامِّين للشركات متعددة الجنسيات وللبنوك الرئيسيةِ الكُبْرى؛ إلى رؤساء ووزراء خارجية ووزراء دفاع؛ ومثال ذلك: "بيتر ماكِنْمارا"، وزيرُ الدِّفاع الأمريكي الأسْبَق، فمن مديرٍ عام لشركة فورد إلى مدير عام للبنك الدَّولي إلى وزير دفاع في ستينيات القرن الماضي؛ ومثال ذلك جورج بوش الأب؛ من مدير عام لشركة " بيكتل" وهي شركة بناء وإنشاءَات متعددة الجنسيات؛ إلى نائب للرئيس " ريغان " إلى رئيس.
والأمثلة على ذلك كثيرة؛ منها: كاسبر واينبرغر؛ كوزير دفاع؛ وجورج شولتز؛ كوزير خارجية؛ وجيمس بيكر؛ كقادم من بيئة شركات النفط في تكساس؛ وليس آخرهم جورج بوش الابن كمديرٍ في شركات النفط في تكساس كذلك.
كل هؤلاء جاءُوا من عمق نظام الإقتصاد الدَّولي الرأسمالي الذي صيغ في أعقاب الحرب العالمية الثانية لاقتسام العالم ونهبِ ثرواته؛ والذي استند إلى الشَّركات العملاقة العابرة للقارَّات؛ والى موْسَّسَاتِ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية؛ وإلى مؤسسات وهيئاتِ التنمية الأمريكية؛ التي تَتَّخِذُ من برامج الإقراض والتنمية ستاراً للهيمنةِ والسَّيْطَرَةِ على العالم؛ ووسيلة لرهن إرادة شعوب وحكومات، ما يُسَمَّى، بالعالَمِ الثالث.
من الصَّعب فهم حركة التَّاريخ دون فهم وتحليل دوافع الَّذين أسهموا في صياغةِ قواهُ الدَّافعة، وفي تشكيلِ مساراته وتحديدِ اتِّجاهاتِه، فالتَّاريخ وأيَّاً كانت التعريفات التي تناولت مفهومه، هو في الحقيقة مجموعة العوامل والأحداث المُتَّصِلة المُتفاعلة المتراكمة الَّتي صنعها أو أسهمَ في صناعَتِها الأفراد أو المجموعات البشريَّة أو الشُّعوب والأمم في حركة تدافُعِهم وصراعاتِهم أو تفاعلهم الاجتماعي والاقتصادي والسِّياسي عبر الزَّمن والجغرافيا على حدّ سواء.
لمْ يُثبِت التَّاريخ يوماً أنَّ الحروبَ، على سبيل المثال، قد شنَّت لذاتِها؛ وإنَّما لأسباب تتعلَّقُ في الغالب بالموارد وبضرورات التَّوسُّع التي كان يفرِضُها تنامي الحاجات وزيادة مناسيب تأثيرات دوافع تلبِيَتِها وإشباعِها في سياقِ حركة تطوُّر البُنى الفوقيَّة والتَّحتيَّة للمجتمعات وزيادة أعدادِ أفرادِها وتطوُّر منظوماتها الاقتصاديَّة وبُناها الاجتماعيَّة وأنظمة الحكم فيها والتَّعقيدات والعوامل المرتبطة بكلِّ ذلك.
في المجتمعات البدائيَّة كان الإحتراب والصِّراع يجري حولَ الماء والكلأ ومناطق الصَّيد، ومع تطوُّر تلك المجتمعات ونشوء الحكومات والدُّول أصبَحت الصِّراعات الَّتي تتصلُ بذات الجذور تَتَخِذُ مظاهرَ سياسيَّة ودينيَّة وأيديولوجيَّة، وتطوَّرت وسائل الصِّراعات وأدواتِها ومبرراتها وشعاراتها وعناوينها مع مرور الزَّمن، وباتت تتخِذُ في كثيرٍ من الأحيان مظاهر أكثر أناقة، وأقْنِعةً زائفة أكثر قبولاً وأُلْفة.
على الدَّوامِ كانت السُّلطة ستاراً لتسويغ وتأكيد النُّفوذ، ولتبريرِ دوافع الإستئثار بالثَّروة، في بيئة سيكولوجيَّة الطَّمع وحبّ السيطرة، أو تحديد آليَّة توزيع الثروات والموارد على نحوٍ غير عادل، وعلى الدَّوام كانت مراكز التأثير والنُّفوذ والسّلطة الحقيقيَّة في المجتمعات تتخِذُ من الأنظمة والدَّساتير والقوانين والأعراف والمبادىء العامَّة روافع ومبررات لزيادةِ تحكمها في حركة الإقتصاد والمجتمع.
ومع ولادة مناخات الاستعمار القديم والتَّقليدي والحديث ومن ثمَّ بروز بيئة العولمة الثقافيَّة والمعرفيَّة والاقتصاديَّة، وبما يعني ذلك من إلغاء الحواجز والحدود التقليديَّة بين الثَّقافات والاقتصادات تحت شعارات تحرير التِّجارة الدَّوليَّة، وإطلاق برامج التَّنمية وإعادة الهيكلة للاقتصادات الضَّعيفة كشرط من شروط الحصول على بعض شروط النتمية الشَّاملة، والحصول على القروض أو إعادة جدولة القروض باستمرار؛ فقد أصبحَ من الواضح تماماً أنَّ كلَّ هذه المفاهيم والأنظمة في الإقتصاد الدَّولي الجديد تَتَّخِذُ اتِّجاهاً واحداً وهو تركيز الثَّروة وإعادة تركيزها بيدِ قوى المركز الإقتصادي والتكنولوجي والمعرفي في هذا العالم والَّذي من أهم مكوِّناته تلك الشَّركات العملاقة ومالكيها ومديريها والمستفيدين من برامجها، والَّتي تستهدف نهبَ هذا الكوكب والتهام خيراته تحت الشعارات والعناوين الزَّائفة، ابتداءً من شعارات الحفاظ على حقوق الإنسان ومروراً بنشر الدِّيمقراطيَّة وليسَ انتهاءً بشعارات صيانة وتطبيق القانون الدَّولي ومحاربة الإرهاب.
بالإجمال: إنَّ كل ما نراه من سياساتٍ دولية؛ ومن كثيرٍ من الظَّواهرِ السِّياسية؛ وحتَّى من ظواهر دينيَّة وطائفيَّةٍ مُتَطَرِّفة؛ ما هي إلّا ثمرة التَّحالف وتطابق المصالح بين سلطةِ الشركات مع النفط مع السَّياسة مع أدْعياءِ حِفْظِ الأديان بالتواطؤ مع الحكومات المحليَّة على امتدادِ الكَوْكب الأزرق .
وحسب آخرِ مُعطيات للبنك الدَّولي، ذاته، فإنَّه؛ وبفعلِ تلك السِّياسات: يحوزُ 20% من سُكَّانِ كَوْكب الأرض في الشَّمال على ما يزيد عن 80% من ثروات الأرض... فيما يحوز أقل من 3% من أؤلئك الــ 20% على أكثر من 80% من تلك الثَّرْوة الَّتي تأوي في نهاية المطاف إلى البنوك الكبرى في شمال وغربِ الكوكب... وفيما تغرَقُ مساحاتٍ واسعة وعريضة من سُكَّان جنوب الكَوْكب الأزرق في العّوَزِ والفقر وقلَّة مصادر الدَّخل ويعانون من مستوياتٍ مرتفعةٍ من البطالة؛ يستحوِذُ قرابة 350 شخص من أصحاب الشَّرِكات العملاقة على ثروةٍ تُعادل ما يحوزه 2500 مليون من البَشَرْ!!.