أشياء كثيرة في مصر تشهد انفلاتاً إلى الحد الأقصى.
الإعلام المصري المقروء والمرئي والمسموع، لا ضوابط عليه، وحتى لا محرمات، كل شخص أو مؤسسة عرضة للتشريح التفصيلي أمام الملايين، ناهيك عن الإعلام الإلكتروني الذي أسس ملايين المنابر لتتحدث عن كل شيء وتقول كل شيء، وهذه ظاهرة يشتكي منها المسؤولون الجديون في مصر من رئيس الدولة إلى أدنى وظيفة حكومية، ولسطوة الإعلام المصري على المواطنين المصريين بحيث هو، وليس غيره، من يشكل المواقف والأمزجة، فقد اضطر ذات يوم الرئيس السيسي إلى القول بأسى سأشتكيكم إلى الشعب المصري.
ورغم الاستهجان الذي يبديه كثيرون إزاء هذه الحالة، إلا أنني أراها بديهية وطبيعية، نظراً لتراكم سنوات الكبت والرقابة والتدخل الفظ في أبسط حقوق المصريين بإبداء الرأي، لقد عاش صنّاع الرأي في مصر سنوات طويلة تحت وطأة اعتبارات ومناخات لا تسمح لأي صاحب فكرة من أن يقولها بحرية، أما الآن وقد انزاحت بلاطات القبر عن الصدور وانفتح المدى أمام الأقلام والآراء، فبوسعك أن ترى وتسمع وتقرأ العجب العجاب، وهذا أمر قد لا تكون السيطرة عليه ممكنة على المدى القريب، ذلك أن عجلة التاريخ لن تعود إلى الوراء ولن تعود الرقابة والمنع كما كانت قبل ثورتين شعبيتين، إلا أن إعادة التوازن في هذا الشأن لا بد وأن تمليها الحاجة بعد وقت نأمل ألا يكون طويلاً، والإعلام ينطبق عليه القول: "البقاء للأصلح"، وهذا ما نأمل أن يتكرس في مصر وأن يترسخ.
بالأمس افتتح البرلمان المصري الجديد أعماله بجلسة احتفالية تلتها جلسة انتخاب الرئيس ووكيلي المجلس، وقد بثت هذه الجلسة المطولة على الهواء مباشرة ومنذ انطلاق وقائعها وحتى الأن وإلى أجل غير مسمى يجري الحديث عنها بكثافة واتساع وبنسبة تربو على التسعين بالمائة من وسائل الإعلام الخاص والعام.
المحصلة حتى الآن أن نسبة انتقاد أداء النواب الجدد أوشكت على أن تكون بنسبة مائة بالمائة، وقليلون على نحو يكاد لا يرى تحدثوا بإيجابية عن بعض اللقطات وليس عن الوقائع، حتى أن أحد الكتاب المصريين المهمين اعتبر أن الجلسة الأولى أغنت المشاهدين المصريين عن متابعة الأفلام والمسرحيات الكوميدية، وانتشرت على الألسنة كلمة "علي الطلاق" التي قيلت حول القسم الدستوري، وغيرها وغيرها من الوقائع التي تقطع ليس بضعف الأداء فقط، وإنما بابتعاده الكبير عما أمل منه، وأجازف كمراقب يعرف بعضاً من الأمور المميزة لمصر شعباً وكياناً بالقول إن هذا المشهد ليس هو الهوية الحقيقية والنهائية لمصر، وإذا ما راجعنا سيرة برلمانات مصر منذ ثورة يوليو حتى ثورتي يناير ويونيو، فلن يكون صعبا علينا إيجاد العلة وراء الذي حدث في جلسة الأمس.
كانت البرلمانات فيما مضى نتاجاً لرغبات وسطوة الحكم والحاكم، ولم تكن الانتخابات المتواترة حرة بحيث تنتج برلمانات متطورة من جميع الوجوه، حتى أن مسيرة البرلمانات في مصر كانت في تراجع مستمر إلى أن وصلت الدرك في آخر برلمان أٌنتج في آخر عهد مبارك حيث كان هذا البرلمان البائس وكيفية إنتاجه أحد أهم أسباب الثورة وأقصر الطرق للإطاحة بالنظام، لهذا نفهم الذي حدث بالأمس وعلينا أن نثق بالكفاءات المصرية المشهود لها في كل المجالات كي تحدث التوازن المطلوب للحصول على برلمان ليس مشهد الأمس هو هويته النهائية.
إن للانتخابات الحرة بعد انقطاع طويل عنها مثالب يصعب تجنبها إلا أن بلداً عريقاً كمصر يملك أخيراً إحداث التوازن.