في بيته الصغير، القائم في زقاقٍ قديمٍ في حيٍّ شعبي عريق بمدينة مشرية، والذي هو أصلا الأستوديو الذي كوّنه بعرق جبينه، وعلى مرّ سنواتٍ طويلة من التعب، يبتكر حمِّي مصباح عالمه الخاص، يرفع جباله بالأنغام، ويلوّن سماءه باللحون، ويعطّر أرجاءه بالمحبة. أوّل ما تلجُ إلى الحوش تقابلك تينة هرمة، وتواجهك أوراقها التي يبست هذه الأيام فتحوّلتْ إلى فراشٍ كلّما قام بإزاحته عاد للتكوّم مصرًّا على جعل الأرضية قطعة من حديقة. على يمينك باب خشبي عتيق يؤدي إلى غرفتين متداخلتين، ويحتضن عالما بكامله من الفن. يواجهك أول ما ترى على الجدار آلة البزق، تحتها ثلاثة جرار مصنوعة خصيصا لإصدار نوع فريد من الإيقاعات، بقربها مباشرة ترى نافورة طينية اصطناعية تصدر على الدّوام رقرقة الماء، على يسارها موقد قديم موصول بموقد كهربائي به شاشة تتراقص فيها ألسنة اللهب المغرية، بقربه آلة قيثارٍ بنية اللون. ثم تجد الطريق إلى الأستوديو الذي هو في الآن نفسه غرفة النوم، النوم في حضن آلهة العزف الجليلة. يقابلك بيانو كيبورد من ثلاثة قطع، والرابعة تحت السرير، على الجدار المواجه مكتبة اجتمع في رفوفها الكتاب مع مقتنيات أثرية متعددة(آلة لإحراق الطيب والبخور، دف، مسدس للديكور تقليدي، آلة الشيشة...وغيرها).
يشتغل حمّي موسيقيا، في فرقة أفراح مشرية التي تغني في الأعراس والحفلات طبوعا مغاربية مختلفة، وفي البيت، يشتغل على معزوفة موسيقية يبنيها على أساس أغانٍ تراثية أهمّها أغاني الشّلالي الأدرارية التي يحاول أنْ يدخل عليها ألحانا معاصرة تنتج حوارية بين أصوات الماضي وصوت الحاضر، بين أصالة النغم الصحراوي القائم على ربع المقام وأنغامٍ أخرى. في الأيام الأخيرة صرت كثير التردد على بيته، أحاول دوما أنْ أعطي للقصيدة ما تحتاج من خبزة المعازف، وللشهادة هو رجل كريم جدا، شلحيٌّ من قصر بوسمغون، ومن أخوالٍ جميعهم يعزف على آلة معينة، لا أحد في مدينة مشرية يجهل عائلة فلاّح التي تضمّ أفرادا كثيرين كلهم موسيقيون. يعجبني في حمّي إصراره على العمل، على الحلم، على تحقيق متعته في الحياة بالفن. يشتغل هذه الأيام على أغنية للشلالي محاولا أنْ يضيف إليها ما يمنحها مسحة عصرية. من أحبّ مقاطعها بالنسبة لي:
"سامية سيدي زين البنات
الأدرارية
ساكنة في الواحة زين لبرورْ
الشروينية".
يشتغل حمّي في صمت، ولكن أيضا في تهميش كبير، في بلدٍ لا يوفّر لفنانيه ما يليق بما يقدّمون، ما يشجّع على مواصلة الطريق صوب الاختلاف والإبداع. في الجزائر بكل مواردها وتاريخها، تسمع عن كاتب مرض ولم يجد بما يعالج، أو فنانٍ بلا تأمين صحي لأنه لا يعمل في مؤسسات الدولة، أو مطرب كبير منسي لأنه تقدّم به السنّ، وتسمع وترى العجائب في واقع فتح صدره للرداءة التائقة إلى بقايا الريع يتصارعون عليها بعد أنْ شبع أسيادهم بما في الطبق من لذائذ الأكل والشرب.
أكتب عن الصديق حمّي مصباح، الإنسان الجميل والفنان الأجمل، وأعبّر من خلاله عن وجع جيل بكامله يحاول أنْ يكون جميلا رغم محاصرته من طرف القبح، يحاول أنْ يبدع ويضيف رغم العراقيل الكثيرة التي يعاني منها، والتي تجعل كثيرا من أبنائه يستسلم لأنّ الفنّ في الجزائر ليس مجلبة للرزق. في هذا السياق أذكرُ قصة طريفة مع كاتبة فرنسية التقيتها في أحد المهرجانات، سألتني:"ماذا تفعل؟"، ففهمتُ أنها تسأل عن عملي، قلت:"أقوم بالتدريس."، قالت:"وبمَ تشارك في هذه الأمسية؟"، أجبتُ أنني شاعر. فاندهشت كيف أقوم بعميلن في وقت واحد. فأفهمتها أنني أدرّس لأحصِّل الرزق، وأكتبُ مجانا في بلدٍ لا حقوق فيه للكتاب والمبدعين. لم أرَ من قبل أجنبية تضرب رأسها بكلتا يديها كما كانت تفعل جدتي يمينة، لكنَّها فعلتْ وتحسّرتْ كثيرا وفي الآن نفسه أبدتْ إعجابا كبيرا بالمبدع الجزائري الذي يكتب أو يعزف أو يغني في هذه الظروف القاسية التي لا تساعد مطلقا على الفنّ.
أحببتُ يا صديقي القارئ أنْ أنقل لك صورة فنان شابٍّ، من الجزائر، من جنوبها الغربي، تحديدا من مدينة مشرية الحارة صيفا والباردة جدا شتاءً، والباردة أكثر حين تهمّش أبناءها وفنانيها..