الحدث - القدس
ليس ذلك الشرق الأوسط الذي كان «شيمون بيريز» يتوخاه في تأملاته الشهيرة قبل 25 عاما حول التجارة المشتركة وتبادل المنافع والاستثمار، والزواج السعيد ما بين (إسرائيل) والعواصم العربية، حيث يمكن للإسرائيليين تناول الحمص في دمشق بينما يقوم العرب بالتسوق في تل أبيب.
أصبح الشرق الأوسط الجديد موضع سخرية. وللأسف فإن الشرق الأوسط الحقيقي الذي يتشكل اليوم لا يحوي أي شيء يمكن أن يكون محطا للإعجاب.
لقد بدأ الأمر مع اندلاع الربيع العربي، والذي جذب المنطقة نحو أتون الفوضى والعنف. وقد صار الأمر أكثر سوءا من انسحاب الولايات المتحدة من القيام بدور فاعل في المنطقة في أعقاب حرب العراق. وترك كل من روسيا والمملكة العربية السعودية وتركيا وإيران لمحاولة ملء هذا الفراغ. وقد أضافت الـ18 شهرا الماضية عنصرا ثالثا هو انخفاض أسعار النفط، والذي تسبب في تباطؤ عجلات الاقتصاد في المنطقة.
الآن، ومع دخول الاتفاق النووي الإيراني حيز التنفيذ هذا الأسبوع، فقد اتخذ العنصر الأخير من الشرق الأوسط الجديد مكانه.
دعونا ننظر إلى القوى الثلاث الكبرى في الشرق الأوسط الجديد ونقاط القوة والضعف لكل منها.
طهران في حالة تغير مستمر
أكبر علامات الاستفهام التي تحوم في سماء المنطقة الآن هي شكل وطبيعة إيران فيما بعد الاتفاق النووي. الآن،هناك سباق يجري بين المتشددين والمعتدلين لم يحسمه أي الفريقين بعد، وهو ما يفسر السلوكيات المتناقضة لطهران خلال الأسابيع الماضية. نجحت طهران في الالتزام بشروط الاتفاق النووي في وقت أسبق بكثير مما كان متوقعا (خمس نقاط للمعتدلين)، في حين أنها قد أجرت تجارب للصواريخ الباليستية في تحد واضح للأمم المتحدة (نقطتين للمتشددين)، كما قامت بإطلاق صواريخ قرب السفن الحربية الأمريكية (نصف نقطة للمتشددين)، وقامت باحتجاز بحارين أمريكيين وأصدرت صورا دعائية لهم (نقطة أخرى للمتشددين)، قبل أن يتم الإفراج عنهم سريعا (نصف نقطة للمعتدلين).
يبدو أن المعتدلين متقدمون في النقاط في الوقت الراهن، ولكنهم لا يضمنون الحفاظ على قدراتهم. من المرجح أن الانتخابات المنتظرة في الشهر المقبل سوف تكدس الأمور ضدهم، وتترك كل شيء، في ما عدا الرئاسة، بين أيدي المتشددين. الحواجز المؤسسية التي أقيمت من قبل المتشددين في وجه الإصلاح الاقتصادي والاستثمار الأجنبي تبدو هائلة، لذا فإن طوفان الاستثمارات الأجنبية الذي يعول عليه المعتدلون من أجل تحريك الاقتصاد وتحسين وضعهم سوف يواجه صعوبات كبيرة.
سوف نرى وابلا من الأخبار حول الصفقات التجارية والاستثمارية، مثل صفقة طائرات إيرباص العملاقة التي تم الإعلان عنها خلال عطلة نهاية الأسبوع، وسوف يشهد الاقتصاد انتعاشا نسبيا نظرا لأنه يقف بالفعل عند نقطة منخفضة. ولكن سرعان ما ستتبخر هذه الآمال بسرعة حينما تتضح حقيقة صعوبة ممارسة الأعمال التجارية في طهران أمام المستثمرين الغربيين.
استعراض العضلات في الرياض
وفي الوقت نفسه، أصبحت المملكة العربية السعودية لاعبا إقليميا أكثر حزما من أي وقت مضى. في المعتاد، كانت المملكة تستخدم عائدات النفط لنشر نفوذها بهدوء. ولكنها تتابع السعي نحو أهدافها الآن بطريقة أكثر إقداما وعدوانية، بداية من قصف اليمن إلى قطع العلاقات مع إيران والعمل على إسقاط «بشار الأسد». لا يمكن للرياض الاعتماد على واشنطن بعد الآن لحفظ النظام في المنطقة وفق رغبة السعودية، لذا فقد قررت الاعتماد على نفسها.
الملك «سلمان»، الذي جلس على العرش في العام الماضي، يبدو أنه هو المسؤول عن هذه النكهة الجديدة لاستعراض العضلات السعودية. ولكن الواقع هو أن أقدام السعوديين غارقة في الوحل. يدور اقتصادهم حول النفط وحده وليس أي شيء آخر. لا تملك البلاد أي قدرات صناعية. وعلى الرغم من استثمار مئات المليارات من الدولارات لبناء الجامعات والمستشفيات والبنية التحتية، فقد بقيت السعودية أحد الدول الثرية في العلم الثالث. ثلث سكان البلاد هو المغتربين وهم الذين يحافظون على القطاع الخاص المتقزم في البلاد على قيد الحياة. لدى المملكة واحدة من أكير ميزانيات الدفاع في العالم، ولكن باستثناء نشاطها الشرطي في البحرين وحملة القصف في اليمن، فإن قدراتها العسكرية لم تختبر، وعلى الأرجح فإنها غير فعالة.
ورغم كل ما يمكن أن يقال، فإن النفط يمثل القوة الحقيقية في الشرق الأوسط. بدون أرباح البترول، تبقى المملكة العربية السعودية مجرد دمية. ويقدر صندوق النقد الدولي أن الرياض تبدأ في معاناة عجز في الموازنة حين يبلغ سر برميل النفط ما دون الـ98 دولارا. تقف الأسعار الآن عند سعر 30 دولارا أو أقل، وهو ما سيجعل المملكة غير قادرة على تمويل حروبها في اليمن وفي سوريا والحفاظ على مصر واقفا على قدميها وإغداق المكرمات على الشعب السعودي إلى أجل غير مسمى.
إيران هي أقل اعتمادا على النفط ولكن الحكومة لا تزال تعتمد عليه لتوليد المال اللازم لدعم الاقتصاد الهش. الأموال المجمدة والتي تقدر بما يصل إلى 100 مليار دولار، والتي سوف تحصل إيران عليها مع نهاية العقوبات، سوف تستخدم في إسعاف الاقتصاد التالف، لا لدفع فواتير صواريخ حزب الله.
ولكن ثروات النفط التي تعول إيران عليها قد لا تكون وشيكة. بسبب السياسة السعودية، التي واصلت ضخ النفط بشكل جنوني، فإن العالم يغرق الآن في النفط. الآن، فإن الإيرانيين يضيفون 500 ألف برميل جديد يوميا إلى العرض في الوقت الذي يشهد فيه الاقتصاد الصيني تباطؤا.
وبعبارة أخرى، فإن اختلال التوازن بين العرض والطلب لن يتغير، وسوف يستمر موسم النفط الرخيص. ستبقى منطقة الشرق الأوسط غارقة في الفوضى التي تبدو عليها اليوم وربما تصير أكثر فوضوية، لأنه لا إيران ولا السعودية تملكان الموارد لخوض حربهما بشكل أكثر كفاءة مما تفعل أيهما الآن. سوف تبقى سوريا ساحة للمواجهة، وسوف يتعين على العراق أن يتعايش مع «الدولة الإسلامية»، وسوف تظل مصر تكافح من أجل البقاء واقفة على قدميها اقتصاديا.
هذا لا يبدو أنه الشرق الأوسط الذي كان يحلم به «بيريز». ولكن الحقيقة هي أن الفوضى كانت أفضل بالنسبة إلى (إسرائيل) مما كان متوقعا. فقد تسببت في صرف نظر أعدائها، بينما أضعفتهم الحرب فيما بينهم وأنهكتهم آثارها الجانبية، وخاصة موجات النزوح الجماعي للاجئين في المنطقة والتي تأثرت بها كل من الأردن وتركيا وأوروبا.