الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"الكُلَفُ الإقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة لمظاهر المُغالاة التِّكنولوجيَّة "/بقلم: رائد دحبور.

2016-02-02 11:10:39 AM

لَمْ يَعُدْ من الممكن تخيُّل الحياة المعاصرة دونَ الاستخدام الكثيف للتكنولوجيا، ففي مضمار وسائل المواصلات والاتِّصالات ووسائل الإعلام، وفي مجالات الإنتاج الصِّناعي والزِّراعي والغذائي وإنتاج الخدمات، وفي مُخْتَلَفِ مجالات أنماط الحياة الاستهلاكيَّة والتَّرفيهيَّة المُتعدِّدة والمُتنوِّعة، وفي مجالات التَّعليم والصِّحة والتَّطبيب وصناعة الأدوية، بما في ذلك برامج الرِّعاية الصِّحيَّة الخاصَّة والحكوميَّة، وفي برامج التَّسَلُّح والتَّجسس والدِّفاع والصِّناعات الحربيَّة، يزداد الطَّلب على التكنولوجيا بشكلٍ مُضَّطَرِد، ويُرصَدُ في سبيل الحصول عليها موارد كثيرة، ويُنْفَقُ في مضمارِها على صعيد الأفراد والمجتمعات والمؤسَّسات الخاصَّة والعامَّة والحكومات والدُّول مبالغ طائلة ومهولة، تصلُ إلى حدود المُغالاة في بعضِ الحالات.

يبرزُ مفهوم المُغالاة التكنولوجيَّة – الَّذي يتم تداوله الآن في سياقِ دراسات التخطيط للتنمية الشاملة وفي أوساطِ الخبراءِ والمحللين والمخططين الاقتصاديين على المستوى الاستراتيجي - وذلك كجزءٍ من واقع ومظاهر الحياة المعاصرة، وتتجلَّى مظاهره الأساسيَّة من خلال الإفراط في استخدام الوسائل التكنولوجيَّة بِكُلَفٍ عالية اقتصادياً ودون مردودٍ على مستوى النُّمو والتنمية، وذلك على صعيد الأفراد والمجتمعات على حدٍّ سواء.

ومن ذلك على سبيل المثال: الإنفاق على وسائل الرَّفاهية الَّتي تفوق الحاجات الضَّروريَّة وحتَّى الكماليَّة بكثير، كالشَّغفِ بامتلاكِ كلّ ما هو جديد من أجيال الهواتف الذَّكيَّة أو الحواسيب الشَّخصيَّة أو السَّيَّارات الفارهة ذات المحرِّكات كبيرة الحجم والتي تستهلك مقادير كبيرة من الوقود، تلك المنتجات المتنوِّعة الَّتي لا يتوقَّف منتجوها عن طرحها في الأسواقِ يومياً بوتيرَةٍ مُتسارعة أصبحت تُقاس بالسَّاعات بدلاً من الأشهرِ والسَّنوات.

ويَنْسَحِبُ ذلك أيضاً على المبالغة في الإنفاق على الوسائل التكنولوجيَّة التعليميَّة ضمن مناهج وبرامج وشروطٍ تظلُّ قاصرة عن الوصول إلى التَّطور والإثراء المعرفي والعلمي، بل إنَّ ذلك يأتي على هامش استهداف تحقيق الأرباح بمعزَلٍ عن جدوى المبالغة في استخدام تلك الوسائل  - كما يجري تحديداً في مؤسَّسات التعليم الخاصَّة.

وكذلك يتخذُ مفهوم المغالاة التكنولوجيَّة مظاهر متعدِّدة كالشَّغف بالإقبال على استخدام العقاقير والمُستحضرات الكيميائيَّة الطِّبيَّة لأغراض التَّجميل والتَّخفيف من الوزن أو التَّنحيف على نحوٍ يستدعي تقليد بعض الأمثلة والنَّماذج التي يتم الترويج لها في عالمِ السينما والفَنِّ أو دور عروض الأزياء، وبما في ذلك محاولات مواجهة مظاهر الشَّيخوخة المبكرة، والاستخدام المُفرِط للمُكمِّلات الغذائيَّة.

وكذلك استمرار المبالغة في الإنفاق في مجالات الرِّعاية الصِّحيَّة والطبيَّة على الحالات الميؤوس من شِفائها وفق المعايير الطبيَّة المجرَّدة، كحالات الموت السَّريري، أو حالات الشَّلل المُتأتي بفعل الحوادث الخطيرة أو السَّكتات الدِّماغيَّة، أو استخدام العقاقير على نحوٍ غير مجدٍ لمعالجة آثار الشَّيخوخة والعجز المتأتِّي نتيجة التَّقدم الكبير في السِّنْ.

إنَّ كلَّ ذلك يدفعُ بالأفراد وبالتَّالي المجتمعات للعيشِ بأكثرِ - بكثير - من الإمكانيَّات الحقيقيَّة المتوفِّرة ضمن الشُّروط الإقتصاديَّة الَّتي تحدِدُ الإمكانات لدى تلك المجتمعات، مِمَّا يؤدِّي إلى نوعٍ من فقدان التَّوازن، وإلى اضطِّراب معايير تحديد الأولَوِيَّات على صعيد الفرد والأسرة والمجتمع، ومن ثمَّ على مستوى تخطيط برامج التنمية على المستويات الرَّسمية والقوميَّة إنْ وُجِدَتْ. وهو ما يمثِّلُ بمجمله وسائل إضافيَّة تُسْتَخْدَمُ في سبيل تكريس السَّيطرة الأجنبيَّة لصالح المجتمعات الأقوى المنتجة للمعرفة والتكنولوجيا على حساب المجتمعات الأضعف والأقل كفاءَة في مضمار العلوم والمعارف وإنتاج التكنولوجيا.  

لا تكمنُ المشكلة إذنْ – أبداً - في التَّطور التكنولوجي، ولا في الاستخدامات المختلفة للتكنولوجيا، ولا تكمن كذلك في زيادة الطَّلب عليها، فعلى العكس من ذلك، فهذا أمرٌ إيجابيٌّ وصحيٌّ من حيث المبدأ. ولكنَّ المشكلة تكمن في كلفة استيراد التكنولوجيا واستعارَتِها على نحوٍ غير ضروري، وفي كلفة استهلاكها والاستخدام المُفرط لها، وهذه مشكلة لها مظهرٌ عالمي وهي مشكلة عابرة للجغرافيا ولمختلف البيئات الإنسانيَّة وللثقافات على اختلافِها، وإنْ بدا ذلك على نحوٍ متفاوت بطبيعة الحال.

لكنَّ ذلك يبدو أعمقُ أثراً لدى المجتمعات والأمم التي لا تُنْتِجُها، أو لا تُنتِجُ إلَّا النَّزر اليسير منها الَّذي لا يفي بأدنى شروط اكتفائها الذَّاتي، حتَّى أنَّها لا تُتْقِنُ على نحوٍ احترافي أو رشيد استخدام المُستورد منها، تلك الكلفة التي تتبدَّى على الصَّعيد الاقتصادي بِهَدْرِ الثَّروات والموارد في غيرِ محلِّها دون حصول النُّمُو ضمن شروطٍ صحيحة، أو إنتاج وإحداث ظروف وشروط وأدوات تنمية شاملة، ويتجلَّى ذلك على الصَّعيد السِّياسي بمظاهر الانتقاص من معايير السِّيادة والاستقلال، والمس بالكرامة الوطنية. ويتجلَّى على الصَّعيد الأخلاقي والقِيَمي، بالأعراض المُصاحبة لإحداثَ تغييرات عشوائيَّة تستدعي تشويه ملامح ومعالم شخصيَّة المجتمعات وإفقادها مزاياها الخاصَّة بها بما يضع تلك المجتمعات في دائرة تصنيف الشَّخصيَّة الإنفصاميَّة على مستوى الثَّقافة والوعي والسُّلوك، كلُّ ذلك بالمقارنةِ مع ضرورات الحاجات الحقيقيَّة لذلك الاستخدام المبالغ فيه، ومبرِّراتِ ذلك الطَّلب والاستخدام الَّذي يضعها دائماً في دائرة الإرتهان لضروراته المُفتعلة والموهومة، بما يخدم أسواق مُنتجي التكنولوجيا في المراكز الصِّناعية الكبرى، والَّذين ينتجونها بشكلٍ كثيفٍ واحتكاريٍّ بمعزلٍ عمَّا يُسمى بالعالم الثالث - على سبيل المثال – ذلك العالم المستهلك للتكنولوجيا دون أنْ ينتجها – حيث يتمُّ تصدير التكنولوجيا من قبَل المجتمعات الأكثر كفاءَة إلى المجتمعات الأقل كفاءَة كسلعةٍ ضروريَّة أو كماليَّة على حدٍّ سواء وفق معايير وقوانين السُّوق، بما في ذلك قانوني العرض والطَّلب الَّلذان يدفعان باستمرار نحو فرض قانون معادلة توازن الأسواق لصالح استقرار سعر السِّلع بما يُتيحُ استمرار إنتاجها وتحقيق الأرباح من وراء ذلك. وتسويق تلك السِّلع أيضاً على قاعدة أحدث نظريات علم التَّسويق.

وبمناسبة الحديث عن السُّوق وقوانينه وآليَّاته، فإنَّه يجري الآن استخدام النَّظريَّات الحديثة في مضمار التَّسويق والَّتي تستنِدُ إلى مزيجٍ من وسائل الدِّعاية والترويج مع استثمار واستخدام بعض النَّظريات النفسيَّة والمعايير السَّيكولوجيَّة الَّتي تُحلَّلُ الدَّوافع وتفسِّرُ اتِّجاهات الرَّغبات من حيث القوَّة أو الضَّعف وتأثير تلك الدَّوافع والرَّغبات في سلوك الأفراد والمجتمعات ضمن مزاياها الخاصَّة وضمن شروط عيشها بشكلٍ عام.

ومن ذلك ما تستَنِدُ إليه وسائل ترويج الخدمات، كخدمات التأمين وإعادة التأمين – على سبيل المثال – ووسائل ترويج السِّلع الجديدة، فهي تقوم على أساسٍ نظري في علوم النَّفس يقول: إنَّ الأشخاص يكونون أكثر حرصاً على الأشياءِ التي يمتلكونها من حرصهم على امتلاك أشياءً جديدة، ولكن وفي سبيلِ ذلك فإنَّه يتم اللجوء إلى إنفاق الكُلَف الإقتصاديَّة - وحتَّى الأخلاقيَّة أحياناً – في سبيل الإحتفاظ بخدمَةٍ مُميَّزَةٍ ما أو سلعةٍ ما أو الحرص على امتلاك فرصة ما في بيئة المنافسة، وخصوصاً عندما يتمُّ ترويج إحدى السَّلِع على أساسِ أنَّها محدودة الكميَّات وأنَّها سَتَنْفَدُ من الاسواق بسرعة، أو أنَّها ذات مواصفات من الصَّعب توفُّرها بسهولة أو تكرارها في وقتٍ آخر قريب.

إنَّ ذلك يدفعُ بشرائح معيَّنة من المُستهلكين إلى إنفاقِ كلفاً إضافيَّة في سبيل الاحتفاظ بما يمتلكون من خلال الحرص والسَّعي إلى الحصول على ما هو جديد على صعيد الخدمات والسِّلع بما يُحافظُ على ما يمتلكونه أصلاً من أشياءٍ أو مزايا على صعيد التَّمتع بالخدمات أو الحيازات الشَّخصيَّة للسِّلع والأشياء.

وهو ما يعني في النِّهاية تعزيز وتكثيف أنماطاً معيَّنة من السُّلوكِ الإستهلاكي الَّذي يفوق إمكانات المستهلِكين ويشوِّشُ على معايير اختياراتهم للأولوِيَّات ويفقدُهم التَّوازن فيما يتَّصلُ برغباتهم الكماليَّة في كثيرٍ من الأحيان.

وهذا ما يجري بشكلٍ مُضَّطَرِد على هامش بيئة ومناخ المغالاة التكنولوجيَّة الَّتي تستثمرها وتستفيدُ منها قطاعات اقتصاديَّة ومراكز قوى تكنولوجيَّة وصناعيَّة وإنتاجيَّة في شمال وغرب هذا العالم تحديداً على حساب جنوبه وشرقه بما في ذلك أوطاننا العربية بطبيعة الحال، ويتم تعزيز أنماط السُّلوك الَّذي يُعظِّم من شأن المُغالاة التكنولوجيَّة كإحدى وسائل إدامة السَّيطرة والتَّفوق من جانب تلك القوى وكإحدى وسائل إفراغ برامج النمو والتنمية لدى المجتمعات الأقل كفاءَة من مضامينها الحقيقيَّة.