كان "ناجي العلي" يلخص حصاد أخبار سنة كاملة وتحليلاتها السياسية برسمة كاريكاتير، أما "غسان كنفاني" فعبَّر عن مرحلة ما بعد النكبة في رواية، "محمود درويش" شرح القضية الفلسطينية برمتها بقصيدة، "إسماعيل شموط" رسم تراث فلسطين بلوحة، فرقة العاشقين روت قصة صمود بيروت بأغنية ... فماذا فعل "مراد عبد الرؤوف" ؟
"مراد عبد الرؤوف" مصري أسمر، قدِم من بلاد النيل والإهرامات إلى لبنان في مطلع السبعينات، مصور بارع، يصور شخصياته بذكاء، يضبط إيقاعات عدسته وينضبط لها، ينتظر لقطته بصبر نسّـاج سجادة عجمية، ثم يلتقطها بسرعة فهدٍ صياد. التحق بحركة فتح في لبنان، وعايش أجمل وأصعب سنوات العمل الفدائي، شهد الحرب الأهلية بكل مآسيها، ومعاناة المخيمات الفلسطينية بكل قسوتها، وصوّر ذلك كله، بعيني فنان، وبروح مقاتل، وبقلب إنسان .. ونقل للعالم بأسره ما رآه.
جاء يحمل في يدٍ بلسما ليداوي به جرح طفلة أدماها السكين الطائفي، وفي يده الأخرى كاميرا ليجسد فيها عذابات شعب مشرد، أما قلبه الطيب فجعل منه مساكن للفقراء .. جاء عروبيا حين كنا في أمس الحاجة للعرب، ومصريا ثار على خرائط التجزئة .. وإنسانا يرفض كل أشكال التصنيف الطائفي ..
عمل في الإعلام الموحد الفلسطيني، وفي مكتب القائد العام، وصار المصور الخاص للختيار (أبو عمار)، أعطى فأبدع، وبكل شجاعة شارك في معارك الدفاع عن الثورة، متنقلا مثل نحلة بين الأزهار وحقول الشوك، وإصبعه على زناد الكاميرا، فسجل كل الوقائع الفظيعة والممارسات الإرهابية والعنصرية بكل بشاعتها، وصوّر الضحايا والتدمير، ولحظات الشجاعة النادرة، واللقطات الإنسانية الأكثر ندرة، حتى فرض صوره الصادقة على كبريات الصحف العربية والعالمية.
في حياته القصيرة رأى الكثير، رأى الموت ينتشر كالوباء ويتسلل من بين الشقوق، واقترب منه أكثر من مرة، وفي كل مرة كان ينجو منه بأعجوبة، بعد الخروج من بيروت بقى فيها ينتظر مولوده الثالث، حاميا أسرته من القتلة والجزارين، ثم رحل إلى تونس ليكمل مشواره هناك مع القائد العام.
رغم ضخامة جسمه كان رشيق الحركة، دائم الابتسامة، مفعما بروح النكتة المصرية، ومع كل تواضعه، ونقاء الأطفال في قلبه، كان لا يتحدث عن نفسه إلَّا من خلال حديثه عن الثورة، امتلك أضخم أرشيف مصور يمكن أن يمتلكه أي مصور في العالم، صور من قلب الميدان، لم يركض وراء أي مجد، إلا أن المجد أحاط به من كل الجوانب.
حين وافته المنية في مصر، بعد ثلاث سنوات عجاف من الخروج، أرادت منظمة التحرير أن تنعيه، بحثوا في أرشيفه الكبير عن صورة شخصية له، فلم يجدوا .. كان قد صوّر كل الشهداء والأحياء ولكنه نسي أن يصور نفسه ..
رحل "مراد عبد الرؤوف" على عجل، بلا وداع، وبلا صورة ..
لروحه السلام