من المعضلات التي تواجهها مسيرتنا الوطنية طويلة الأمد وكثيرة المعارك، عدم الوصول إلى لغة متوازنة في خطاب الموالاة وخطاب المعارضة، فخطاب الموالاة غالباً، وربما دائماً، يتسم بالسذاجة والترويج الأعمى، واستخدام كلمات التبجيل التي لا تستخدم إلا عندنا.... فمن تواليه فهو معصوم عن الخطأ، وكل ما يصدر عنه ينبغي أن يكون محل تقدير واعتناق، وهذا النوع من الخطاب الذي يستعين بمعلقات شعرية، وأغنيات صاخبة، غالباً ما يحقق مردوداً عكسياً عند الناس الذين لديهم مصادر عديدة للمعرفة وموازين أكثر دقة للتقويم، وبالتالي فإن لهم عقلاً يستطيعون من خلاله التمييز بين إعلام مقنع وإعلام ساذج.
أما خطاب المعارضة فهو خطاب أعمى، جُملُه جاهزة وإداناته تلقائية، واستخدام كلمة خيانة يتم بلا قيود أو ضوابط، ولو أحصينا كم مرة استخدمت هذه الكلمة وكيف كانت تستخدم لكانت النتيجة أن الشعب الفلسطيني كله اتهم بالخيانة وحق عليه القصاص.
النتيجة الحتمية لخطاب الموالاة وخطاب المعارضة، أن الخطابين يتضافران على وعي الجمهور فيؤديان إلى الانفضاض عنهما وعدم الاكتراث بحيثياتهما وحججهما وخلاصاتهما.
وهذه واحدة من الكوارث التي يفرضها وينمّيها الإعلام الساذج، إعلام أبيض ناصع لمن نوالي والأسود الفاحم لمن نعارض، والكثير من المجتمعات والنظم السياسية المتطورة قضت على هذه الظاهرة بالقضاء على فكرة الإعلام الرسمي الذي يتولى دافع الضريبة الإنفاق عليه دون أن يتلقى بدلاً عن هذا الإنفاق أية ميزة ينتفع بها، لهذا ألغيت وزارات إعلام، ودخلت النظم في منافسة مع الإعلام الخاص، فصار هذا الإعلام المتحرر من الرسمية عامل تطور وبناء، والأهم من ذلك عامل ردع للتمادي والشطط، وصار السياسي في أي موقع كان حريصاً بل وخائفاً من المنابر الحرة، ما أسهم فعلاً في ترشيد سلوك الساسة خصوصاً حين صار للإعلام الخاص والحر قوانين تضبط لغته وسلوكه، ومثلما يخاف السياسي من الإعلام الحر، فإن الإعلام الحر ذاته يخاف من القانون، وهنا يحدث التوازن الحضاري وهنا يغيب الشطط والامتهان والثأرية والتخوين وما إلى مثل ذلك من الظواهر المدمرة.
متى نصل نحن إلى هذا المستوى، أو متى نضع أقدامنا على الطريق المؤدية إليه؟؟
أنا لست متفائلاً بإجابة مقنعة شافية، وأنا لا أرى في إعلامنا غير الأبيض والأسود.