الهوية والإبداع
د. مليحة مسلماني
الحدث - يحتفي العالم في آذار الحالي بيوم المرأة العالمي وبإنجازاتها، وللثقافة الفلسطينية أيضًا أن تحتفي بنساء لهنّ الدور الكبير والفعّال في صياغة الخطاب الإبداعي الفلسطيني ونقله إلى المشهد العالمي من خلال نتاجات تشكيلية وأدبية وغيرها رسمت الهوية وأنسنت القضية الفلسطينية، والاحتفاء برأينا لا يكون فقط بالشعارات والخطابات ليوم واحد من العام، بل بالتركيز على تلك النتاجات للمرأة الفلسطينية بالقراءة والتعمق والتقديم والتحليل للجمهور. من بين النساء الفلسطينيات اللاتي كان لهن الدور الكبير في الحراك الثقافي الفلسطيني الفنانة التشكيلية لطيفة يوسف التي تعيش وتعمل في القاهرة. فنانة نشطة على جميع الأصعدة الاجتماعية والثقافية والوطنية، لكن تبقى هويتها الأولى في أعمالها التي تزخر بالألوان الفلسطينية، بأسلوب تجريدي تعبيري يأخذ القضية والهوية إلى بعدٍ كونيّ يتجلى في ثوب جماليّ ملفت ومُبْهر.
بدأ مشوار لطيفة يوسف التشكيلي مع انطلاق حركات التحرر الوطني الفلسطيني في أواخر الستينات وصعود دور منظمة التحرير الفلسطينية، لتعاصر الفنانة كل التحولات التاريخية التي مرت بها مسيرة النضال الفلسطيني منذ ذلك الوقت حتى الآن. وهي الفترة التي شهدت ترسيخ المفاهيم الوطنية وثقافة المقاومة الجماهيرية في سبيل تحرير الأرض والذات. جاءت أعمال الفنانة في تلك الفترة، بما فيها تلك التي في سنوات الانتفاضة الفلسطينية الأولى، بأسلوب واقعي تعبيري غالبًا، فشخوص لوحاتها تعلن انتماءها للهوية والقضية الفلسطينية؛ شبانًا يحملون السلاح ـ كرمزيةٍ للكفاح، وجماهير تصطف في دلالة على النضال في مسيرة التحرر، ونساء يرتدين الزي التقليدي الفلسطيني، أما خلفيات الأعمال فهي المكان الفلسطيني ريفًا تزينه شقائق النعمان، أو ساحة معركة ترفرف فيها الأعلام. تذكّر بعض تلك الأعمال للفنانة بأعمال الفنان الراحل إسماعيل شموط ذات الأسلوب الواقعي التعبيري، والتي ظل موضوعها الإنسان الفلسطيني المقاوم والشهيد والجريح، والمرأة ـ الأم والأرض وحاضنة الهوية. لكن أعمال لطيفة يوسف احتفظت منذ البداية بأسلوب خاص ميزها، منهجه تجريد القضية والهوية اللتان تنطلقان من الجذورٍ توقًا نحو الكونية. وهو تجريدٌ يتحرر من أطر الواقع والحدود المغلقة للطرح المباشر للموضوع، ليفتح الجرح الفلسطيني على ما لا نهاية من أفق التأويل والتشرّب الذوقي. يمكن ملاحظة ملامح التجريد الأولى في أعمال الفنانة من خلال تداخل الألوان في أعمالها وشبه الإمّحاء لملامح الشخوص وتماهيها مع التكوين العام للوحة.
بشّرت أعمال لطيفة يوسف منذ المراحل الأولى بتطور أسلوب الفنانة نحو التجريدية، أو البقاء بالأصح في منطقة بين التجريدية والتعبيرية، كما هي الأعمال التي أنتجتها في السنوات الأخيرة. يكمن في تلك البرزخية بين التعبير عن الواقع وتجريد الموضوع في أعمال الفنانة السرُّ الجمالي الذي تقبض عليه، وتلك هي هوية لطيفة يوسف التشكيلية. تحضر في هذا السياق مجموعة من الأعمال تتخذ فيها الفنانة من ألوان العلم الفلسطيني مادة إعادة اشتغال وبناء وتكوين، فتعيد صياغة رمزية الهوية ـ العلم ـ في تكوين بصري يحتوي على التضاد الجمالي بين واقعية ألوان العالم من جهة، وأسلوبية التجريد المتشكل من تحرر الألوان من الأطر أو التكوين الواقعي من جهة أخرى. في تلك الأعمال للفنانة ينفتح العلم الفلسطيني بألوانه المعروفة، على أفقٍ من الأمكنة ويشكل شخوصًا وعوالم تشقّ أفقَ تعدّدِ التأويلات والقراءات.
تنتقل الفنانة بالتدريج الى التجريدية التعبيرية، تُبقي على الهوية في معالجة تشكيلية جريئة للألوان، في حين تبدأ ملامح الشخوص بالامّحاء شبه الكليّ تماهيًا مع التكوين العام مع اللوحة، لتظهر الشخوص والأمكنة والعوالم في تماهي لوني جمالي متكامل ومتداخل بشكل لا يمكّن من القراءة الكلية للوحة دون الارتكاز على شيفرة التماهي بين عناصرها. لا يبدو اختفاء ملامح الشخوص في أعمال الفنانة محوًا لهوية تلك الشخوص بل على العكس، فسرّ هوية شخوص لطيفة يوسف هو التماهي ذاته، أو الذوبان في الهوية الكلية، التي تتأرجح بين الانتماء لفلسطينيها وقضيتها من ناحية، وانتمائها إلى الإنساني والكوني من ناحية أخرى. في تلك البرزخية ـ أو البيْنية ـ تقف الشخوص لا حيرةً أو ترددًا، بل إعلانًا واثقًا بانفتاح الهوية على الكوني الواسع رغم تجذرها الراسخ في المحليّ والوطني المعروفة حدوده. وببراعة وحرفة عاليتيْن تصيغ لطيفة يوسف خطابها اللوني العابر للأقطار والهويات، بحسِّ فنانة تمعنت في قضيتها وفي الوجود، هذا الحسّ الوجداني ـ الفلسطيني الهوية الكونيّ الرؤية ـ منبعه المنفى خارح الوطن وحالة اللااستقرار كقدرٍ يلاحق الفلسطيني، ليتحول هذا الوجدان إلى قلق وجودي دائم الحضور والطرح للأسئلة الكبرى عن الحياة والهوية.
لا تخاف أعمال لطيفة يوسف من اللون الواحد أو الخالص، أو من ألوان قوية الحضور مربكة في العمل الفني كالأسود أو الأبيض، أو من التداخل اللوني الجريء والانفعالي، فالتكوين النهائي الذي تقيمه الفنانة على أرضية لوحاتها التي تعتمد بها تقنيات مختلطة من كولاج وقماش وكتابات وغيرها، يُظهر تكاملية الهوية البصرية التي تسعى إليها لطيفة يوسف.
تشتغل الفنانة في أعمالها الأخيرة على اللونيْن الأبيض والأسود لتكوّن رؤيتها لحالة الحصار التي يعيشها الفلسطيني والتي تميز المكان الفلسطيني من حواجز تطورت في العقل الصهيوني إلى إقامة جدار فصل منبعه عنصريّة الفكر والممارسة. تُخضع لطيفة يوسف اللونيْن بضربات لونية وتكوينات كولاجية من القماش ومقاطع من نصوص في أعمال تبدو مرة أخرى واقفةً في برزخيّة غريبة ومربكة: لها وجه يطلّ على الاختناق، أو الموت، وسوداوية الحياة، ووجه آخر يطلّ على الأمل والإشراق والتحرر. هذه الرمادية بين الأسود والأبيض في أعمال الفنانة هي المرادف لرمادية الحياة على أرض فلسطين، ورمادية حياة الفلسطيني أينما كان، فلا هو يعيش حالة الحرب تمامًا ولا حياة السِّلْم تمامًا، وهو منفيّ لكنه قابض على الذاكرة يعيش بها وفيها، ورغم الحصار والمنفى يحاول الصمود والانفتاح على الحياة والتمسك بتفاصيلها البسيطة.
أخيرًا، لأعمال لطيفة يوسف قاموس لونيّ مفاتيحه الانسياب والتماهي بين عناصر اللوحة وألوانها لتتناغم جميعًا في سردية بصرية تختزل الثورة وتضج بالوجدان، ولها أيضًا قاموس رمزي مصدره الثقافة؛ القدس، والعلم، والكتابات والنصوص والأشعار العربية، والتطريز، والكوفية، وشقائق النعمان، والزخرفة والنباتات، كلها رموز مختزلة في أعمال الفنانة، تتبدّى من بين التكوينات اللونية في تماهي وتزاوج ضروري لإنجاب الهوية المستمرّ حضورها عميقًا في الجذور، الصاعدة بزهر يتطلع إلى سماوات الانفتاح على الوجود.