غزة- محاسن أُصرف
الماء العذب لا يصل عبر الصنابير في غزة، وما يصل هو الماء المالح.
مع شقشقة الصباح، تضيج أزقة المُخيمات بقطاع غزة بأصوات الباعة، كلٌ يُرنم بصوته مناديًا على ما يحمل في عربته، حليبٌ سائغٌ، كعكٌ طازج وخضروات قُطفت للتوِّ من بساتين المزارعين على الحدود الشرقية للقطاع.
لكن الترانيم العُلى تبقى لباعة الماء العذب، إذ يُجمع فقراء القطاع على شرائه كونه لا يصلهم عبر الصنابير الموصولة ببيوتهم، يقولون: "فقط ما يأتي مِلحُ الماء مرًة كل ثلاثةِ أيام، وفي كثيرٍ من الأحيان مرًة في الأسبوع وفقًا لحالة انتظام جدول الكهرباء".
"ميّـــــة حِلوااااااااة" نداٌء يُكرره صبيحة كل يوم، "محمد الفقعاوي" وهو عاقد العزم على بيعِ ما لديه من ماءٍ عذب ببضعةِ شواكل لسكان حي الشيخ ناصر بمدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، الناسُ في هذا الحي وغيره ينتظرون إشراقة الشمس لشراء الماء العذب واستخدامه في مآربهم اليومية للشرب والطهي.
نبيل مُصطفى، موظف حكومي في العقد الخامس من عمره، يُعيل سبعة أفراد، اضطرته ملوحة وتلوث المياه الواصلة عبر الصنابير إلى منزله، لإيجاد ميزانية من راتبه لشراء الماء العذب، يملأ كل ثلاثة أيام صهريج بسعة 500 لتر بقيمة (20) شيكلًا، تستخدمه زوجته لأمور الطهي والشرب.
كان الرجل يعتمد على تعبئة أربعة جالونات من الماء العذب يوميًا من إحدى عربات المياه العذبة الجوالة، لكن معاناة وصوله إلى الطابق الرابع حيث يسكن، جعلته يُفكر في وضع الصهريج على سطح منزله وتمديد خط منه ليصل لصنبور المنزل.
يتصل بعد فراغ الصهريج، بإحدى ناقلات المياه العذبة المُرخصة، فتأتي في غضون ساعة نظرًا لكثرة الطلب من السكان على شراء المياه العذبة، وما إن يسمع موسيقاها حتى يوعز لابنه "علي" اعتلاء السطح، يرمي حبل طويل لصاحب الناقلة الذي بدوره يربطه بأنبوب الماء فيسحبه "علي" ليصل إلى الصهريج، من الأسفل يُنادي الأب موصيًا ولده بتنظيف الأنبوب أولًا قبل وضعه في فوهة الصهريج لضمان صحة الماء.
الماء الذي يصل عبر الصنابير، درجة ملوحته عالية جدًا، لا تُطاق عند المضمضة للوضوء، علاوة على أنها مليئة بالشوائب "كالصدأ" مثلًا، لكن السكان يجدوا أنفسهم مُضطرين إلى استخدامه في الاستحمام وأعمال التنظيف الأخرى، لا طاقة لهم في ظل ما يُعانوه من ارتفاع لمعدلات الفقر والبطالة، بدفع المزيد من أموالهم لشراء ماء عذب لهذه الاستخدامات، والنتيجة انتشار كبير لأمراض تساقط الشعر والأمراض الجلدية بينهم خاصة لدى الأطفال في فصل الصيف.
ولأن لغزة خصوصية على جميع الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كان لُشرب الماء فيها خصوصية أُخرى لا تُشابهها خصوصية في العالمِ أجمع. خصوصية الحصول على ماء الشرب العذب من العربات الجوالة في أزقة المُخيمات لانعدام الماء الصالح في صنابير بيوتهم، وانعدام الخيارات أمامهم، في حين لم تجد المنظمات الراصدة للوضع الإنساني في القطاع سبيلًا سوى إطلاق التحذيرات من عدم قابلية العيش فيه خلال السنوات العشر القادمة.