الحدث- وكالات
اثبتت التجارب ووقائع التطورات السياسية منها وحتى العسكرية، وعلى مر التاريخ لعدة عقود دخلت، أن العلاقات الدولية تكون دائماً مرهونة باستخدام "الاقتصاد" من أجل تحقيق اهداف "السياسة" مهما كان نوعها وتوجهاتها، وما يتطلب ذلك من دعم مصالح تحالفات محددة، ورصد اموال تكون احياناً بلا حدود لتمويل عمليات عسكرية او صفقات اسلحة متنوعة من شأنها ان تساهم في احداث تغييرات "جيوبوليتيكيه" ، ينتج عنها تحالفات جديدة تشمل مناطق عدة من العالم، وهذا ما يحصل حاليا" في ضوء تداعيات الصراع الروسي ـ الاميركي والاوروبي حول ازمة اوكرانيا .
وفي اطار الصراع القائم ، طالب وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي الدول المرشحة لعضويته ، مثل تركيا وصربيا ، ودول ثالثة اخرى (حليفة) عدم القيام بأي محاولات للاستفادة من العقوبات المفروضة على روسيا، والابتعاد عن اتخاذ اي تدابير لاستخدام هذه العقوبات لصالحها، وذلك من اجل ضمان وحدة المجتمع الدولي، واحترام القانون الدولي بحسب بيان الاتحاد الاوروبي.
وكرد على العقوبات المفروضة عليها، اشارت روسيا إلى احتمال تعاونها مع عدة دول، مثل تركيا وسويسرا وروسيا البيضاء والارجنتين وشيلي، من اجل سد الفراغ الذي حدث في السوق لديها، بسبب قرارها بوقف شراء واستيراد سلع غذائية ومنتجات البان وخضراوات وفاكهة واسماك من النرويج واستراليا وكندا والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي .
ولكن اين وضع الدول العربية في هذا الصراع؟.. وهل تستفيد منه؟.. وكيف؟.. وهل قادرة على ذلك في ظل التطورات الامنية والسياسية القائمة ، وعنف القتال الدائر في سوريا والعراق، وخطورة ظهور "الداعشية"، وخطط مكافحة الارهاب، فضلا عن التحالفات المرتقبة بين مختلف دول المنطقة، وبينها وبين الدول المعنيه في الصراع حول "اوكرانيا"؟..
صراع المصالح
لا شك في أن الصراع الدولي القائم يوفر فرصاً سياسية واقتصادية لعودة التقارب بين روسيا والدول العربية، خصوصا"، وأن معظم هذه الدول تعاني من أزمات اقتصادية عقب" ثورات الربيع العربي" منذ عام 2011، وهي ترغب في احداث توازن اقليمي للنفوذ الاميركي في منطقة الشرق الاوسط، وتتركز مجالات التعاون الروسي ـ العربي في قطاعات رئيسية اهمها : الطاقة، التعاون التقني، والتعاون العسكري، فضلا عن التجارة والاستثمار، ومع تصاعد وتيرة الخلافات السياسية بشأن اوكرانيا، قد تسعى موسكو الى محاولة اعادة هيكلة التحالفات العالمية للطاقة وتكوين تحالف جديد من الدول المنتجة للنفط، مع العلم ان المنطقة العربية تعتبر سوقاً مهمه لعقد صفقات بيع الاسلحة الروسية، ويزداد فيها الطلب على تكنولوجيا الطاقة النووية، والتي يمكن ان توفرها لها روسيا، وكل ذلك يساعد موسكو على تحقيق" شراكة اقتصادية استراتيجية " تضمن المصالح الروسية والعربية.
ولكن يبدو أن ثمة صعوبات وتحديات سياسية اقتصادية عدة، لا سيما وأن الهياكل الانتاجية لمعظم دول المنطقة غير مرنة بما يتعذر عليها الاستفادة من الفرص المتاحة، خصوصاً وان اتجاهها لتفعيل تعاونها مع روسيا يمكن أن يثير استياء دول الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الاميركيه، التي ترفض أن يستغل شركاؤها الأزمة مع روسيا لتحقيق أرباح على حساب مصالحها، مع الاشارة إلى أن هذا التقارب من شأنه تهديد الاتفاقات التجارية الموقعة بين بعض دول المنطقة والاتحاد الاوروبي.
وفي اشارة واضحة لاهمية المصالح الاميركية واستخدامها في العلاقات الدولية، سبق لوزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس ان اعلنت انه "ليس لدى الولايات المتحدة الاميركية اعداء دائمون او اصدقاء دائمون، ولكن لديها مصالح دائمة". لذلك لم يفاجأ المراقبون في العام الماضي بالانفتاح الاميركي على العلاقات مع ايران، خصوصاً وان بعضهم يرى ان ثورات الربيع العربي وتنامي المد الاسلامي في المنطقة، كان لهما تأثيرهما البالغين في توجه واشنطن تجاه طهران، بمنطق الرهان على الجواد الاسلامي بشقيه السني والشيعي، وذلك في وقت تسعى فيه الولايات المتحدة نحو مشروع شامل لوضع العالمين العربي والاسلامي تحت مظلتها، على ان تحتفظ بمسافة بعيدة منهما حرصاً على امنها وضماناً لمصالحها، مع الابتعاد من احتمالات التورط في مواجهة مشاكل التطرف الديني في غرب آسيا وشمال افريقيا.
واذا كانت الولايات المتحدة كما هو معروف، دولة براغماتية تغير سياساتها ليس وفقاً لمصالحها فقط بل كذلك وفق مصالح حلفائها ايضاً ولا سيما اسرائيل، فان علاقاتها المرتقبة مع طهران قد تغير الخريطة السياسية في الشرق الاوسط في ضوء تأثيرات ثورات الربيع العربي، وتكون المنطقة امام تحالفات جديدة.
ويلاحظ ان الروس تمكنوا من احداث اختراق كبير في التحالفات المرتقبة في المنطقة، وذلك بفضل جرأتهم وشجاعتهم والتمسك بحلفائهم، وبالتحديد حليفهم الوحيد ربما بشار الاسد، في مقابل "دولة اميركا المترددة"، ولكن بالطبع فان روسيا لن تحل محل اميركا او اوروبا، مع التأكيد على ان انحسار الدور الاميركي في العالم وفي منطقة الشرق الاوسط تحديداً، سيساعد في "تسخين" العلاقات مع موسكو، خصوصاً وان هناك استعداداً لدى دول الخليج وعلى رأسها السعودية للعب دور متفدم في دعم التحالفات الجديدة التي تواكب التطورات في اطار خلط اوراق كثيرة، قد تحدث توازناً في "لعبة الامم" بين اللاعبين الاقليميين والدوليين، على ان يبرز في هذا المجال دور العلاقات الاقتصادية وتمويل صفقات المواقف السياسية والسلاح وحتى العمليات العسكرية والامنية.
الفوائد المتاحة
يستدل من تطبيق العقوبات المتبادلة بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي من جهة، وروسيا من جهة ثانية، حول ازمة اوكرانيا، وتداعياتها، انها تشمل دولاً عدة متضررة بين الفريقين، وذلك في محاولات من كل فريق للضغط على الفريق الاخر، ويمكن من خلالها تحديد الفوائد المتاحة للدول العربية في ضوء تطور علاقاتها مع كل منهما، وهي تتركز في مجالات عدة اهمها:
اولاً : المال والاستثمار، لقد شملت العقوبات الاميركية والاوروبية ضد روسيا اكثر من 100 شخصيه و23 شركة ومصرف، ومنعت الشركات الاوروبية من الاستثمار المباشر وغير المباشر في القرم، واشار مراقبون في زيوريخ الى ان العقوبات ستؤثر على ثروات الاغنياء الروس في خزائن المصارف السويسريه والبالغة نحو 16 مليار فرنك سويسري، مع العلم ان هذه الثروات تضاعفت منذ اندلاع الازمة الاوكرانيه، ويذكر ان الروس هم اكبر الزبائن في مجال الصيرفة الخاصة في سويسرا ويتنافسون بثرواتهم مع الاغنياء الاميركيين.
ويدرس الاتحاد الاوروبي حظر الاقتراض او التمويل في اوروبا ليشمل جميع الشركات الروسية المملوكة للدولة ، وتقليص الحد الادنى لاجل استحقاق ادوات الديون الصادرة عن البنوك الروسية ، وكذلك فرض حظر على شراء المشتقات المالية الروسية.
ولمعرفة مدى امكانية الاستفادة العربية من تداعيات تلك العقوبات، لا بد من الاشارة الى اهمية الاستثمارات المشتركة بين روسيا والبلدان العربية، ولا سيما دول الخليج.
في العام 2013، دخلت روسيا ولأول مرة قائمة افضل ثلاث وجهات للاستثمار الاجنبي المباشر، وجذبت 94 مليار دولار بزيادة 83 في المئة عن العام 2012 ، وفقاً لاحصاءات الامم المتحدة ، وتشمل هذه الارقام استثمارات خليجية في روسيا، اهمها 18 مليار دولار للامارات ومنها صندوق الاستثمار الروسي العربي برأسمال ملياري دولار مناصفة بين الجانبين ، والذي انشئ مباشرة بعد زيارة ولي عهد ابو ظبي الشيخ محمد ال نهيان الى موسكو في خريف العام 2013 ، وهدفه توظيف استثمارات مشتركة بمشاريع تقام على الاراضي الروسيه .
اما بالنسبة الى الاستثمارات الروسيه في البلدان العربية، فان اهمها في سوريا حيث قدرتها غرفة تجارة دمشق بنحو 19 مليار دولار ، وتتركز بشكل اساسي في قطاعات النفط والغاز والكهرباء ، والسياحة ، ويوجد استثمارات روسية في الامارات تشمل اكثر من 350 مشروعاً مشتركاً بين رجال اعمال روس واماراتيين، كما ان مئات الشركات الروسية افتتحت مكاتب تمثيل لها في الدولة .
واضافة الى 67.7 مليون دولار استثمارات روسية بـ 398 شركة في مصر، تتحدث اوساط استثمارية عن "شراكة خليجية ـ روسية" لدعم الاقتصاد المصري خلال الفترة المقبلة ، وذلك بعد التفاهمات التي اجراها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في زيارته الاخيرة الى كل من السعودية وروسيا .
وقد تلجأ روسيا الى التمويل الاسلامي لمواجهة العقوبات الاقتصادية ، وفي هذا المجال بعثت جماعة ضغط تمثل البنوك الروسية رسالة الى البنك المركزي الروسي تدعوه لاتخاذ اجراءات لتشجيع التمويل الاسلامي في وقت يواجه فيه القطاع المصرفي مشاكل في الحصول على تمويل خارجي .
ثانياً : تجارة الاسلحة ، وتشمل العقوبات حظر استيراد الاسلحة الروسية ، ويستدل من دراسات موقع "جلوبل ايشوز" الالكتروني، ان انفاق العالم على التسليح يبلغ سنوياً نحو 1.7 تريليون دولار، ويشكل 2.5% من الناتج المحلي العالمي، وتتجاوز تجارة السلاح الرسمية بين الدول والمنظمات التريليون دولار، لتحتل مكانة بارزة في قائمة التجارة الاكثر ربحاً، وتسيطر الدول الست الكبرى (اميركا ،روسيا ،بريطانيا ،فرنسا، الصين،والمانيا) على 88 في المئة من اجمالي تجارة السلاح في العالم، اما الدول الاكثر شراء لهذا السلاح، فهي تتركز بشكل كبير في العالم الثالث، والدول النامية، وتمثل بعض دول آسيا ومنطقة الشرق الاوسط والخليج العربي بشكل خاص ساحة للمنافسة الملتهبة، مع الاشارة الى ان الولايات المتحدة كانت في مقدمة الدول المنتجة والمصدرة للسلاح بلا منازع خلال السنوات العشر الماضية، وبلغت حصتها ثلث صفقات العالم ، وقد تقدمت في هذا المجال على حساب تراجع روسيا التي خسرت عدداً كبيراً من زبائنها في الشرق الاوسط، وذلك بدءاً من العام 1973، عندما تحول السلاح المصري الى الولايات المتحدة، ولم يبق زبائن للسلاح الروسي من البلدان العربية سوى الجزائر وسوريا، حتى ان المراقبين يؤكدون انه لم يكن للنظام السوري ان يصمد امام هجمات مختلف الجماعات المسلحة المعارضة من دون الدعم الروسي، واشارت بعض الاحصاءات الى ان 13 في المئة من مبيعات الاسلحة الروسية في المنطقة في الفترة من 2008 الى 2012، ذهبت الى سوريا.
ولكن يبدو ان صفقة السلاح الروسي الجديدة الى مصر والتي تقدر قيمتها بثلاثة مليارات دولار، لن تكون الوحيدة بل هي بداية لتعاون يشمل صفقات عدة، وتتناول مختلف المجالات العسكرية بما فيها التدريب واعادة التأهيل والترميم لكافة انواع الاسلحة الروسية بما فيها القديمة الموجودة بحوذة الجيش المصري.
وفي اطار التحالف القائم بين مصر وبعض دول الخليج بقيادة المملكة العربية السعودية، ستتم عمليات تمويل تلك الصفقات على مراحل وبشكل منتظم، بحيث تستفيد روسيا بقبض مبالغ ضخمة من الدول الداعمة لمصر، وهي طريقة مختلفة عن سابقاتها منذ اكثر من اربعين سنة عندما كانت تبيع السلاح بقروض مقسطة ومؤجلة.
واضافة الى ذلك من المنتظر ان تستفيد روسيا ايضاً من بيع السلاح الى بعض دول الخليج ولاسيما السعودية والامارات والكويت.
ثالثاً : تجارة المواد الغذائية ، لقد ردت روسيا على العقوبات الاوروبية، بوقف شراء المواد الغذائية من لحوم وخضار وفاكهة وغيرها ، من بلدان اوروبية ، وبرز في هذا المجال طموحات لدى المغرب ليشكل مزوداً بديلاً للسوق الروسية ، وعلى الرغم من ان المغرب اختار الحياد وعدم التدخل في الازمة الاوكرانيه ، فان منتجي الخضار والفاكهة في المغرب تحدثوا بايجابية ، معربين عن املهم في تعويض المنتجات الاوروبية والاميركية. كذلك ابدى لبنان رغبة في زيادة صادراته الى روسيا ، وفي هذا المجال يقول رئيس اتحاد غرف الزراعة والصناعة والتجارة محمد شقير انً في امكان لبنان ان يقدم كل شيء الى روسيا من خضار وفاكهة ومعلبات واجبان وكل منتجات مشتقات الحليب للصناعات الغذائية، مؤكداً ان التصدير الى روسيا هو بمثابة فرصة ذهبية على لبنان ان يستفيد منها ، وان المؤسسات الصناعية اللبنانية التي يمكنها التصدير الى روسيا ليست بقليلة ، لان مواصفات الدخول الى السوق الروسي هي نفسها المعايير المعتمدة في الاتحاد الاوروبي ، ولبنان يصدر عدداً من الصناعات الى اوروبا.
وتجدر الاشارة الى ان هذه الخطوات التجارية ستساهم في زيادة حركة التبادل التجاري بين روسيا والبلاد العربية والتي تبلغ حالياً نحو 15 مليار دولار سنوياً ، وقد تضاعفت عشر مرات في السنوات العشر الماضية وفق احصاءات مجلس الاعمال الروسي العربي.
رابعا" : الطاقة ، وتشمل التهديد الروسي بوقف بيع الغاز للاتحاد الاوروبي ، وهي اكبر مزود لدوله حيث تبيعها نحو ثلث حاجاتها من النفط والفحم اضافة الى الغاز ، وكانت روسيا قد قطعت امدادات الغـاز عـن اوروبــا ثلاث مرات خلال العقد الماضـي في اعــوام 2006 و 2009 ، واخيراً في شهر حزيران (يونيو) الماضي ، لكنها (اي روسيا) تقول انها منتظمة في امداد اوروبا بالغاز ، ولم تقطعها عنها سوى عندما استحوذت اوكرانيا على كميات كانت موجهة الى اوروبا .
وبما ان اوروبا تستورد كميات كبيرة من النفط الخليجي فهي بامكانها زيادة مستورداتها من الغاز وخصوصاً من قطر والجزائر ، وبما ان الدول الاوروبية تعتمد في تغطية 60 في المئة من احتياجاتها على انتاج الشركة الروسية (غاز بروم)، فانها ستراجع العقود التي تربطها بالجزائر ، لا سيما العقود المتوسطة الامد قبل بداية الشتاء المقبل الذي يتوقع ان يكون قاسيا على اوروبا في حال عدم وجود بديل عن الغاز الروسي "المحاصر" بتدهور الوضع الامني في اوكرانيا .
حتى ايران التي بقيت لسنوات بعيدة عن الاسواق العالمية ، تأمل ان تفضي المفاوضات مع مجموعة 5 + 1 الى نتائج تمكنها من العودة مجدداً الى هذه الاسواق ، وقد أبدى نائب وزير النفط الايراني علي مجيدي استعداد بلاده لتصدير الغاز الطبيعي الى اوروبا عبر الاراضي التركية او غيرها من الطرق.