الحدث - د. وليد الشرفا
من رواية القادم من القيامة
أظنه صحا الآن، لابد أنه قد هدأ الآن ونسي كل شيء، المجنون لا يعرف كم أحبه، وكم أستلذ بحديثي معه، أكثر من كل جميلات الأرض، يرن يرن...
- نعم..
- أليس هذا هاتف..
صحيح، اسمع...اسمع
أين؟...
لو سمحت، اسمعني، أرجوك أنا ممرض في سيارة إسعاف، كنت أنقل سيدة تريد الولادة، وصديقك الآن معي، إنه مصاب، وحالته صعبة. لقد حاول إبعاد الجنود من الطريق، لتمر السيارة فأطلقوا عليه...
- كيف وضعه؟ أرجوك دعني أكلمه...أسمع صوته ...
- أين ستنقله؟
- إلى المستشفى. هل تعرفها؟
- أحاول التذكر.
- أنت لست من البلد.
- بلى، لكني مسافر منذ فترة طويلة.
- آسف، أن أنقل لك الخبر. لكنه الحظ.
- أرجوك، افعل ما تستطيع سأنقله إلى فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، أمريكا، المهم افعل ما تستطيع. عندما يفيق قل له صديقك اتصل بك، ويعتذر منك حتى أصل، أرجوك.
- معلش، أنا لازم أتحرك مع الإسعاف.
- ok صديقي، ابق معه هاتفه، وأنا قادم قادم.
ما الذي حدث؟ هل سيشفى؟ بالتأكيد سيشفى، لن يكون القدر ظالما وقاسيا ودمويا هكذا. لا بد أنه سيرحمني ويرحمه، إنه آخر الأنبياء.
سأذهب إليه إلى المستشفى، سأقف عند رأسه، وعندما يصحو، سأداعبه، وأقول: لقد غلبتني يا لعين، لقد أجبرتني على العودة، أية عودة وأي رحيل هذا الذي بدأ بالدم والفراق وربما الخيانة؟ وانتهى بالدم والهزيمة والخريف.
أصعد الطائرة، هذه المرة بلا خوف، وأنا ابن هذه الحضارة الآن، أغمض عيني، لم أتصل بأحد كأنني مهاجر عبر هذه الأجواء بلا معنى ولا ذاكرة، ولا حتى بصمات. كيف فعلت ذلك؟ أين الأحبة والأصدقاء والصديقات؟ أستاذي المهاجر، الإفريقية الحانية الرائعة، الصديقة الفرنسية الرومنسية، المفكرة، إنها المرة الأولى التي أعترف فيها بجدوى الشعر، وإنه حالة من الألوهية، وتلك المرحلة المتوسطة بين الظل والشمس، وبين الموت والحياة، وبين اللغة والشهوة، وبين الرموز والمجسدات، لابد أن تتحول هذه الحادثة إلى شعر لتخلد، لم يمت الأنبياء، وأبطال الأساطير، ولا حتى الشعراء العظماء، ربما كان الشعر شاهدنا المطلق على إنسانيتنا، لقد متنا رمزيا وشعريا قبل أن نموت على الحواجز وفي الأزقة، هذا الموت الساخن الرهيب المجاني.