الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

تحنيط المبدعين بوصفهم آلهة

2014-03-18 00:00:00
تحنيط المبدعين بوصفهم آلهة
صورة ارشيفية

الحدث - بقلم: أنور الخطيب

لا ريب في أن محمود درويش الشاعر العملاق الحاضر الغائب يشكل مدرسة ستستمر لسنوات طويلة، وسيبقى ينهل منها الشعراء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وأن نجيب محفوظ الروائي القصصي الكبير يُعدّ مدرسة في السرد العربي وعلامة فارقة في تاريخ الرواية العربية، ويمكن ذكر أسماء كثيرة كبيرة في الشعر والرواية، لكن الباحثين وطلبة الدراسات العليا في الجامعات والنقاد والإعلاميين وحتى القراء توقفوا عند هذين الإسمين - الجديرين بالتوقف عندهما - دون غيرهما من الشعراء والروائيين نظرا لشهرتهما وانتشارهما الواسع، وجهوزية المادة الإبداعية والنقدية، ولإقبال دور النشر على نشر الدراسات الخاصة بهما، وحرص المكتبات الجامعية على اقتناء البحوث المتعلقة بنتاجاتهما، وهم بذلك يمارسون مصادرة - قد تكون غير مقصودة - لمبدعين آخرين لا تقل تجاربهم نضجا ولا شخصياتهم ثقافة عن درويش ومحفوظ، وبالتالي أوحوا أن رحم الشعر العربي أصبح عقيما بعد درويش، والرواية العربية أصبحت يتيمة بعد محفوظ، وهو إيحاء يضر بتاريخ الإبداع الشعري والروائي العربي بشكل عام، ويحبط مبدعين آخرين في مجالي الشعر والرواية، ولم تنجح الجهود المبذولة من قبل المسابقات والجوائز العربية بشكل يمكن الإشارة إليه وتوثيقه، في طرح اسماء جديدة يعملون على تأصيلها كمحطات مضيئة في مسيرة الإبداع الروائي والشعري، بل إن المسابقات والجوائز أصبحت مثل المسابقات الغنائية The Voice  و Arab Idole، من حيث احتفائها بالفائز إلى حين قدوم فائز آخر يحل محله إعلاميا وفنيا. 

ويردد المثقفون مقولة ممجوجة جدا وتوحي بالعجز الشامل، تتمثل في أن الساحة الأدبية أصبحت مزدحمة إلى درجة يصعب فيها الفرز، وهذا الموقف يعكس فشلا ذريعا للنقاد في تتبعهم للمنتج الشعري والروائي، ويبدو أن الشعر والرواية يسيران بسرعة أربكت النقاد العرب وجعلتهم يستقيلون من مهامهم عن طريق ترسيخ قناعة يحاولون نشرها بأن رحم الشعر أصبح عقيما بعد درويش والرواية أصبحت يتيمة بعد محفوظ، وذلك حتى يتجنبوا الاجتهاد والبحث والقراءة والتقصي، وهذه القناعة التي يتمسكون بها جعلتهم يصابون بالجهل والجفاف والتصحّر، يشاركهم بها عدد كبير من المشرفين على الأقسام الثقافية في المؤسسات الإعلامية، الذي شكّلوا رأيا مشابهاً، وتوقفوا عند أسماء ماتت قبل عقود مديدة، وهذا يشكل عيباً في أدائهم المهامهم المهنية، إذ من صميم مهام المشرف الثقافي البحث عن الجديد المتجدد، ومتابعة النتاجات متابعة دؤوبة، حتى لو كان أحد الكتاب قد أصدر عملا شابته أخطاء في السابق، فإن على المشرفين قراءة نتاجاته اللاحقة، إذ لا أحد يبقى في مكانه، وكثيرون تفوقوا على أنفسهم في أعمال لاحقة. 

أما الأدب الفلسطيني، ويمكن التجرؤ أكثر بالحديث عن الإبداع الفلسطيني بالمجمل، فقد سجنه النقاد العرب في إطار شائك ويرفضون تحريره، فالصورة النمطية للمبدع الفلسطيني: يتحدث عن فلسطين (التي باتت قضية ممجوجة في نظرهم)، وبلغة مباشرة فجة تتحدث عن الاحتلال واللجوء والمنفى، وأحسنهم يكرر ما كتبه درويش وغسان كنفاني وسميح القاسم وإميل حبيبي، وإذا غازل امرأة بلغة لا تحتمل التأويل ولا الترميز قالوا إنه يتحدث عن فلسطين، وكأن المبدع الفلسطيني بلا قلب، ولا ينتشي بعطر زهرته. 

إن هذه الصورة النمطية التي ترسخت لدى النقاد العرب تجاه النتاجات الأدبية الفلسطينية، وهذا الموقف الفاشل الذي كونه النقاد وعدد من المثقفين من (الازدحام الإبداعي)، يشي بمرض الركون إلى الجاهز المتحقق، ولن يخدم تطور الثقافة والإبداع الأدبي العربيين. 

يحدث كل هذا في ظل ازدهار القطرية الثقافية والشوفينية الأدبية والشللية والمافياوات الأدبية التي تحدث عنها زميلنا أحمد زكارنة في برنامجه الإذاعي الجميل في صوت فلسطين، وفي إطار الميليشيات الثقافية التي تحدث عنها صديقنا الروائي الرائع واسيني الأعرج، وكلها تساهم في استعادة عصر الفراعنة في تحنيط الملوك بوصفهم آلهة، ووضع سواتر عالية أمام التاريخ والهامات المجتهدة، وكأنهم يعلنون نهاية التاريخ الإبداعي، كما أعلن الباحث الأمريكي ميشيل فوكوياما نهاية التاريخ، حين تفتت الاتحاد السوفييتي معلنا انتصار الليبرالية الغربية إلى الأبد. 

التاريخ لن يتوقف عند درويش ومحفوظ أيها السادة النقاد والمثقفون في المؤسسات الإعلامية، لكنه يحفظ لهم عبقريتهم ويسجلها في أرشيفه الذهبي المحلق، مثلما لن يتوقف التاريخ عند تفتيت الاتحاد السوفييتي، فالروح البشرية معطاءة وولادة، وهناك كتابات تستحق التوقف عندها، وغض البصر عنها خيانة عظمى بحق الثقافة العربية، فمن يصر على موقفه المحنط عليه أن يبادر بالاستقالة، لأن التاريخ سيفضح عجزه.

لقد فشل الربيع العربي حين سرقه المتطرفون الذين صادروا المنجز المعرفي البشري على مدى أكثر من 1400 عام، وسيفشل الربيع الثقافي لأن القيمين عليه يتحلون بالعقلية ذاتها، ويصادرون المنجز الإبداعي الذي واكب درويش ومحفوظ، وما قبلهما وما بعدهما، والفشل سيضرب رأس كل من يعتقد أن العقم أصاب رحم الشعر وأن الرواية العربية أصبحت يتيمة.