دكتاتورية الجغرافيا.. توحش المصالح.. وأيديولوجيات قاتلة
رام الله - محمود الفطافطة
رغم انطفاء نار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، إلا أن رمادها لا يزال مُشبعاً بسخونة الجدل والتباين حول نتائج هذه الحرب على المشهد الفلسطيني ومحيطه. هذه النتائج سيكون لها، بالطبع، تأثيرات واسعة وفارقة على البنية الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط العائمة فوق رمالٍ متحركة قد يكوي لهيبها جسد ذلك الرماد، لنعود مرة أخرى إلى زمهريرها إذا تعذر العثور على "إطفائية سياسية" تُبرد النقاط المشتعلة والعطشى للحقوق والتطلعات.
وفي الوقت الذي كان فيه الرصاص طارداً للفائف الدبلوماسية وسراديب المصالح والحسابات، فإن هدوء أزيز هذا الرصاص أشعل رصاصاً من نوعٍ آخر، مكدساً ببارود مُملح يُرش على جروح ملتهبة، جروح مثقلة بحمل الأعباء والدموع حيناً، ومزمنة بتعقيدات وتدخلات مكبلة ومفترسة أحياناً.
وبين من يرى أن هذه الحرب أنجبت نصراً استراتيجياً للفلسطينيين بمفاهيمها الأيديولوجية والسيكولوجية والعملية كذلك، وأن لها من التأثيرات الجيوسياسية الكثيرة التي ستمنح صورة أخرى لهذه المنطقة مستقبلاً، نجد آخرين يذهبون للقول بأن الصراعات العربية المتلازمة مع التواطؤ العربي والغربي على المقاومة، حال بين المقاومة وتحقيق مثل هذا الانتصار، وأن الوقت لم يُتح بعد لقطف انتصار فلسطيني في ظل التعقيدات والتيارات السياسية والأمنية المتلاطمة في المنطقة.
في هذا التقرير نسلط الضوء على الأبعاد الاستراتيجية لنتائج العدوان على قطاع غزة لنتعرف على مدى مساهمة هذه الحرب في إحداث تغييرات في المشهد الفلسطيني وسواه، فضلاً عن معرفة الأبعاد والآثار الناجمة لهكذا تغيرات، وما لها من أثر وتأثير في بنيتها، وأيضاً في بيئة التحولات مستقبلاً.
تقييم أخضر ونصر معلق!!
بداية، نود الإشارة إلى دراسة أعدها مركز أطلس للدراسات الاستراتيجية يرى فيها أن تقييماً عميقاً وشاملاً لمجريات الحرب ونتائجها ومآلاتها القريبة والبعيدة على كافة المستويات والبيئات ليس ممكناً الآن، فهو بحاجة لدراسات أوسع وأشمل، وإلى وقت تكون فيه الرؤية أوضح ووقت تتسيد فيه لغة العقل على لغة العواطف المشحونة بلهب البارود وثورة الدم. هذا كله لا يمنع من إجمال سريع، ومن تناول أبعاد المشهد، سيما وأن بعض النتائج شديدة الوضوح.
يقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في جنين د. أيمن يوسف: "يمكن اعتبار نتيجة الحرب على غزة انتصاراً استراتيجياً للمقاومة، إذا تحقق توافق فلسطيني على الرؤية المستقبلية لإدارة الصراع مع الاحتلال، وإذا أصبحت المصالحة أمراً واقعاً وملموساً في حياة الناس". ويضيف: "أعتقد أن الانتصار قد يتحول إلى نصرٍ استراتيجي في حال اقتناع حركة حماس بحاجتها إلى ذراع تفاوضي سياسي، في مقابل اقتناع فتح والسلطة عموماً بحاجتها إلى رافعةٍ ميدانية تعززها قوة المقاومة".
ويؤكد د. يوسف أنه لم يكن هناك سنداً أو عمقاً حقيقياً عربياً أو إقليمياً للمقاومة، حيث كانت وحيدة وستبقى كذلك في المستقبل، لذا: "عليها أن تعد نفسها وتجهز أدواتها جيداً لأي مواجهة قادمة بناءً على هذه المعادلة". ويحذر من بروز "هوية" فلسطينية غزاوية تعتز بذاتها لما أنجزته من انتصار في الحرب، منوهاً إلى أن هذا التوجه، في حال تحققه، قد يتيح لتحويل القطاع إلى "كياني سياسي منفصل عن الضفة"، خاصة إذا تم تنفيذ بناء المطار والميناء وفتح معبر رفح، والتي عندها ستكون لديها قنوات تواصلها المستقل مع الخارج بعيداً عن البوابات الفلسطينية.
ويعبر د. يوسف عن عدم تفاؤله بالمستقبل القريب لأسباب عدة، أهمها: تبادل الاتهامات وتنامي الاحتقان بين "حماس" و"وفتح" مؤخراً، وإمكانية تصلب قيادة حماس في التعاطي مع فتح منطلقة من " انتصارها"، فضلاً عن بروز قضايا وملفات جديدة بعد الحرب قد تؤثر سلباً على ديمومة المصالحة، إلى جانب التدخلات والتجاذبات الإقليمية، عدا عن فقدان رؤية أو استراتيجية فلسطينية واضحة ومحددة.
تحالف الأعداء وتنازع الأشقاء!
وبشأن المتغيرات العربية والإقليمية يبين د. يوسف أن دور مصر سيبقى محورياً في المنظور القريب لكن مع إمكانية بروز تحالفات وشراكات استراتيجية جديدة في المنطقة ستنافس مصر على هذا الدور الإقليمي، سيما من قبل قطر وتركيا بحكم العلاقة الوثيقة التي تربط هاتين الدولتين مع حركة الإخوان المسلمين والتنظيم العالمي لها. ويذكر أن الحرب أظهرت وجود تقارب بين مصر وإيران، وهذا ما سيكون له تأثيرات واسعة على ملفي سوريا والعراق وأبعاداً ليس على حركة حماس فقط، وإنما على علاقة مصر وإيران مع كل من تركيا وقطر والسعودية ودول الخليج. ويوضح د. يوسف أن العدوان على غزة قد أضاف محوراً جديداً إلى محوري (الاعتدال، والممانعة)، يمكن وصفه بمحور الاعتدال الداعم للمقاومة العسكرية، يشمل على كل من قطر وتركيا وحركة حماس وقوى المقاومة الفلسطينية الأخرى.
من جانبه يعبر مدير عام المركز الفلسطيني للدراسات "مسارات" هاني المصري عن تخوفه من الحيلولة دون حصاد سياسي وعملي حقيقي لملحمة الصمود في قطاع غزة، بسبب التباينات الحادة والاحتقان الشديد الذي ظهر على السطح مؤخراً بين حركتي فتح وحماس، حيث يقول: "رغم إنجازات ملحمة الصمود في غزة التي أعادت الاعتبار للقضية الفلسطينية والمقاومة وللإنسان الفلسطيني، وحققت تعزيزاً للوحدة الوطنية، شاهدنا تصاعداً ملحوظاً بتبادل الاتهامات والتحريض الإعلامي على خلفية التباين بشأن تقييم العدوان، ومن يتخذ قرار السلم والحرب، وهل كان بالإمكان تفادي الحرب أو تقصير عمرها لو تمت الموافقة على المبادرة المصرية عند طرحها".
مثل هذه التناقضات وسواها تستوجب، وفق المصري، البحث والشروع فوراً في حوار وطني شامل من خلال عقد مؤتمر وطني، بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي الفلسطيني، منوهاً إلى أن بعض هذه الخلافات أو كثير منها يستوجب تشكيل لجنة تحقيق وطنية محايدة مهمتها تقييم ودراسة ما حصل، واستخلاص الدروس والعبر، وتحميل المسؤولية عن الأخطاء التي وصل بعضها إلى حد الجريمة.
ويضيف: "إذا عاد الانقسام وعادت مسيرة سياسية زائفة على نفس القواعد السابقة أو بتغيير طفيف قد تتغاضى عنه إسرائيل، لأن وجود عملية سياسية ضروري جداً لها الآن أكثر من أي فترة سابقة، فإن ذلك من شأنه أن يقطع الطريق على فرص تبني الفلسطينيين مقاربة جديدة مختلفة عن المقاربات السابقة، تعتمد على المقاومة والمقاطعة والتفكير بمحاكمة قادة إسرائيل عبر التحرك السياسي المسلح بأوراق القوة، وعلى تنامي الروح الجديدة التي هبت بين الفلسطينيين وجعلتهم يدركون أهمية استنهاض عناصر القوة التي بحوزتهم. لذلك، يطالب المصري بأهمية إيجاد استراتيجية وطنية واضحة ومتفق عليها، تمكن الفلسطينيين من السعي قدماً نحو تحقيق أهدافهم وتطلعاتهم.
الحوار والدم... لمن القرار؟!
بدوره، يقول الباحث في العلاقات الدولية طارق الشرطي: "أن لنتائج الحرب على غزة أبعاداً تندرج في إطار المستوى الاستراتيجي ذات الدلالات العميقة على المنطقة مستقبلاً، فعلى الجانب الفلسطيني، أثبت هذا العدوان فشل نهج المفاوضات وبأنها عبثية، ولا تجدي نفعاً مع الاحتلال، وأن المقاومة هي الكفيلة بإزالته من فلسطين". ويشير إلى أن امتلاك المقاومة لأسلحة نوعية ومؤثرة ستغير من طبيعة الصراع مع الاحتلال، حيث أنه لا يمكن لإسرائيل، وقتما تشاء، أن تعتدي على غزة، فضلاً عن أن المقاومة ستدفع ببعض الدول والجماعات والأحرار في العالم للتضامن الفعلي معها ومساندتها مستقبلاً.
وفيما يتعلق بصورة المنطقة والشرق الأوسط عموماً يذكر الشرطي أن الشرق الأوسط أصبح له طابعاً يختلف عما كان عليه سابقاً، سواء ما له ارتباط بهذا العدوان أو بمجريات الدول العربية بشكل عام، منوهاً إلى أنه وبعد ما تبين من نتائج لهذا العدوان أصبحت الدول جازمة بأن للمقاومة وحركة حماس دوراً هاماً بالقضية الفلسطينة لا يمكن تهميشه، وخصوصا مصر، فضلاً عن تأكيد العديد من الدول بشرعية المقاومة ومرجعيتها السياسية، كالموقف التركي والقطري، وحتى بعض الدول الأوروبية.
وفي السياق ذاته، يرى الكاتب والباحث السياسي عبد الغني سلامة أن الوحدة الوطنية والاستراتيجية المتفق عليها من شأنهما تجسيد الانجازات على أرض الواقع، معبراً في الوقت ذاته عن قلقه من تصاعد لغة التخوين والتشكيك بين حركتي حماس وفتح وما لذلك من تأثيرات سلبية على واقع ومستقبل القضية الفلسطينية. في هذا الشأن يقول: "كل طرف يريد اقتناص اللحظة التاريخية لصالح حزبه، برؤية فئوية ضيقة، تنطلق من رؤى فصائلية وحزبية، أكثر من كونها إجابات صادقة وموضوعية".
ويضيف سلامة: "آن الأوان للإجابة على الكثير من التساؤلات بمنهج نقدي مسؤول لأن النقد الموضوعي هو الذي يقوم المسيرة، ويمنع تكرار الأخطاء، ويحاسب كل مقصر وكل مخطئ، ويجعل لتضحياتنا ثمنا وقيمة على عكس لغة الشتائم والتخوين، والتركيز على الخلافات وتضخيمها، وتصيد أخطاء الآخرين، وممارسة الانتهازية السياسية التي من شأنها القضاء على " منجزاتنا الوطنية، وستحول نصرنا إلى هزيمة، وسنكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً".
حرب قادمة، والسلاح: وحدة الموقف والإرادة
المحلل السياسي د. عدنان أبو عامر يقول " إن نتائج العدوان على القطاع تشكل فشلاً لإسرائيل، لأن أمنها سيظل مهددا بصواريخ المقاومة، والتهدئة ستسمح لحماس بمزيد من تطوير معداتها وصواريخها العسكرية، وهذا يؤكد أن نتائج الحرب لإسرائيل قاتمة للغاية، لأنها لم تحقق الردع الكافي الذي يمنع حماس من مهاجمتها مجددا، منوهاً إلى أنه" بدلا من أن تكون الحرب الأخيرة تمهد الطريق للقضاء على التهديد من غزة، فإنها مهدت الطريق للجولة المقبلة في غزة أو سواها من الجبهات المتململة".
ويبين د. أبو عامر أن حرب غزة نسفت القناعات والشعارات التي ظلت ترددها إسرائيل، وباتت تعترف بشكل واضح وجلي باستحالة تحقيق نصر على الفلسطينيين، لأن إسرائيل بدت كإمبراطورية أنهت توسعها، مشيراً إلى أن هذه الدولة تواجه الآن آلام التقلص، كباقي الإمبراطوريات السابقة التي لم تكن حذرة من التوسع الزائد.
إلى ذلك، يطالب " تقدير استراتيجي" أصدره مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ببيروت مؤخراً بتعزيز الوحدة الفلسطينية لإنجاح فرص المقاومة في الضفة، وتنفيذ برامج لبناء الثقة بين فصائل وقوى الشعب الفلسطيني، وإعادة النظر في ارتباطات السلطة بقيود أوسلو، والتأكيد على دورها في إنهاء الاحتلال، وليس في تكريس الاحتلال من خلال أدوار وظيفية تخدمه وتتسبب في بقائه. ويشدد " التقدير" على أهمية ممارسة تعبئة إعلامية تعلي من دور الشعب والفرد الفلسطيني، بدلاً من الخطاب الحزبي الفصائلي، إلى جانب العمل تدريجياً على توجيه الاقتصاد في الضفة ليكون اقتصاداً انتاجياً ومقاوماً، وليس اقتصاداً استهلاكياً رفاهياً.
كذلك الحال فقد اجتمع عدد كبير من الباحثين والخبراء الفلسطينيين والعرب في عمان مؤخراً لتداول نتائج الحرب على غزة، ليخرجوا بجملةٍ من التوصيات، من أبرزها: بناء توافق عريض حول برنامج وطني مشترك مدعوماً بتوافق حول أشكال الكفاح والمقاومة والتحذير من مغبة "المبالغة" في تضخيم انتصار غزة، وإشاعة الانطباع بأن الشعب الفلسطيني قد حقق جميع مطالبه، فطريقه للحرية والاستقلال ما زال طويلاً، ومعبداً بكثير من المصاعب والتحديات.
وطالبوا بإبعاد القضية الفلسطينية عن التجاذبات والمحاور العربية والإقليمية، فالقضية ما زالت تمتلك القدرة على توحيد الرأي العام العربي، وهي أكبر من أي فصيل أو دولة أو محور. كما أكدوا أن نجاح إدارة دفة المفاوضات لتثبيت الحقوق الفلسطينية، مشروط بوحدة الموقف والأداة والإرادة.وشددوا على الحاجة لتفعيل الإطار القيادي المؤقت في منظمة التحرير، ليكون "مرحلياً على الأقل"، مرجعية قرار الحرب والسلم، ومصدر صنع القرارات والسياسات في كل ما يتصل بالشأن الفلسطيني.
خلاصة القول: رغم ظهور بعض النتائج والآثار لهذه الحرب إلا أن بعضها الآخر ينتظر الزمن لينضجه ويبرزه... ومما لا شك فيه أن حجم هذه الأبعاد لن يكون أقل من قسوة الحرب بما حملته من تعقيدات وتشابكات مادية وبشرية.. وبما أن المنطقة تعوم على ناقلة الدم والنار حيناً والتواطؤ والتحالفات أحياناً فإن قسوة الجغرافيا ستبقى عدوة للفلسطينيين، مثلما هي المصالح المتوحشة التي يهيمن فيها الربح على الإنسانية، عدا عن تلك الأيديولوجيات القاتلة والمنتعشة بمقولات مثل: ما يفعله الحق فهو حق، و "تبادلية الإقصاء وهيمنة الاستثناء" وغيرها من عبارات مجبولة بالعنصرية والإحلال.