تفسير أحلام
الحدث: سأفترض أن امرأة ما تقوم بزراعة حوض من البقدوس، حوض صغير، لا تتعدى مساحته المتر المربع. تخيلوا المشهد أرجوكم، امرأة تحمل في كفها حفنة من بذور البقدونس التي اشترتها للتو من بائع البذور. هل رأيتم بائعاً للبذور يبيع بذور البقدونس فقط؟ أنا لم أرَ. فلا أحد يمتهن هذه المهنة في طول البلاد وعرضها. أقصد في مساحة البلاد، والتي هي ناتج ضرب الطول بالعرض. فبائع البذور قد يميل، بحكم ضغط الموسم، إلى البقدونس اليوم، وإلى السبانخ غداً. لكنه في كل حال يبيع بذوراً لكل شيء؛ للفجل والذرة والسبانخ و و.
امرأة تحمل في كفها حفنة من بذور البقدونس وترشها فوق تربة حوضها المحروثة، ثم تقلّبها جيداً وتذهب مطمئنة إلى شؤونها الأخرى.
دعكم من شؤونها الأخرى، وتخيلوها، بعد يوم أو يومين وهي ترش الماء فوق تربتها التي أصبحت تخفي البذور. يا لسعادة الترقب! تخيلوا اليوم الرابع والخامس حين تبدأ الوريقات الخضراء بالبروز من تحت التربة، أكلّ هذه الخضرة بقدونس؟ أيمكن أن تتساءل امرأة عن وجود هذه الحشائش الغريبة بين شتلاتها الصغيرة؟ تخيلوا إذن هذا الافتراض: إمرأة تقف حزينة فوق متر مربع من الأرض، تنظر إلى الكثير من البقدونس النابت، وتعرفه جيداً من رائحته وشكله، ولكنها تتساءل بحرقة عمّن زرع هذه الحشائش بين شتلاتها.
لننتقل درجة أخرى في سلّم الخيال: بعد شهر يكون الحوض مكتمل الخضرة وواضحاً تماماً. الكثير من البقدونس. ثلاث شتلات من السبانخ، لأن ثلاث بذرات سقطت بالخطأ في وعاء البذور عند البائع. شتلة أو اثنتين من الفجل، للسبب ذاته. والكثير من الحشائش غير اللازمة. والتي ستقوم المرأة المزارعة بتنظيف الحوض منها أولاً بأول.
السؤال البائس هو: هل ستقوم المرأة بإزالة شتلات السبانخ والفجل التي نبتت بالصدفة في الحوض؟ أم أنها سترعاها وكأنها قصدت زراعتها؟ أجزم أنها ستتركها كما هي. أجزم أيضاً أنها ستقوم برعايتها كبقية الحوض وأكثر. وربما تقوم باقتلاع بعض البقدونس القريب منها لكي تنمو بشكل أفضل.
هذا هو حوضي الحبيب، ستقول المرأة دون الانتباه أن هذا الحوض الحبيب يحوي دخلاء لم تقصد وجودهم. ستكبر شتلات السبانخ الدخيلة، وسوف تتساقط بعض بذورها فوق التربة بانتظار مطر قادم، وسوف تنبت في المرة القادمة بدل الشتلات الثلاث، عشرون شتلة. وسوف تخفف المرأة من البقدونس المضر حول هذه الشتلات. ومرة بعد مرة سيصبح الحوض الصغير حوضاً للسبانخ لا للبقدونس. لكن امرأة ما، تلك التي قمنا بتخيلها في البداية، ستقول لابنتها وهي تنشر الغسيل: يا ابنتي.. أحضري لنا بعض السبانخ من حوض البقدونس.
نعم، الاسم مقدس نوعاً ما ولا يجوز تغييره. ثمة انتهاك فاضح يمكنك الشعور به إن غيرت الأسماء. أما المحتوى.. ذلك الشيء الذي أردناه في البداية فلا ضير أن يختفي تماماً مع مرور الأيام وتغير الرغبة، ودون أن ننتبه. لم يكن الفجل ضرورياً جداً في الحوض، كما لم يكن كافياً ليستطيع المنافسة. وربما اقتلعته المرأة حال نضوجه ولم تنتظر لتنشف أوراقه وتطرح بذوراً في تربة الحوض. لذلك فقد اختفى من المشهد دون أي شعور بالخسارة أو الانتماء.
دعكم من امرأة تحب السبانخ وتزرع البقدونس. ولننظر قليلاً إلى تعريفنا لأنفسنا سواء كنا أفراداً أو جماعات أو شعوباً. ما الذي يجعلك متأكداً من تعريفك لنفسك كعربي مثلاً؟ من هو العربي برأيك؟ هل هو ذلك الشخص الذي يتحدث العربية ويعتنق الإسلام؟ أم هو صاحب البشرة الحنطية والشوارب السوداء. أم هو ذلك الشخص الذي نشأ وترعرع في حدود ليبيا أو الكويت أو فلسطين؟ بمعنى آخر: ما الذي يقرر تعريفك لنفسك كعربي؟ أهو المكان أم الثقافة والتقاليد أم الشكل؟
لو قمنا بتجريب الخيارات الثلاثة، لظل هناك من هو خارج الحوض. ولو قمنا بدمج الخيارات الثلاثة أيضاً لظل هناك من هم خارج الحوض. لم يكن سؤال البقدونس سؤالاً عبثياً بقدر ما هو سؤال فنتازي، يحدد لي على الأقل بداية الطريق لفهم ما تؤول إليه أحوالنا وأحوال منطقتنا. بمعنى آخر: ستفشل برأيي كل المحاولات التي تجعل السياسة مدخلاً لهذا الفهم. ولا بد بالتالي من طرح أسئلة ثقافية لمحاولة جادة للتفسير. والأسئلة الثقافية ليست حوضاً كما قد يتبادر للبعض. أي ليست الثقافة شعراً أو رواية أو رتوشاً فلكلورية نحاول استنهاضها بالقوة كما فعلت المرأة مع السبانخ. بل هي بالأساس تعريفنا لأنفسنا ضمن هذا العالم المحيط والمتغير في كل ثانية. لا بد إذن من أسئلة في عمق الثقافة والوعي، وعلينا جميعاً أن نبدأ بطرحها بكل جرأة.