قصَّةٌ قصيرة....
الحدث: تكَوَّرَ الليلُ على النَّهارِ؛ فوقَ عُمْقِ سطحِ مياه المحيط؛ وانشَقَّت السَّماءُ الى شَطْرَيْنِ يفصِلُهما وميضُ البَرْقِ؛ كما لو كانَ سكِّينٌ لامِعٌ قد قَطَعَ شطيرة زُبْدَةٍ داكنةٍ إتَّشَحَت بالثُّقوبِ السَّوداء والتَفَّت بالهواءِ المُضَبَّبِ المُشْبَعِ باحتمالاتِ العَواصِف؛ قَبْلَ أنْ تَحْجُبها داكِناتُ الغيوم؛ الَّتي طَلْعُها كأنَّهُ رؤوسُ الشَّياطين؛ وبدأت مياهُ المحيطِ تَموجُ على وقعِ صفير الرِّياحِ العاتياتِ القادِماتِ من تلقاءِ الغرب؛ ثمَّةَ تزاوُجاً وتناغُماً بينَ رؤوسِ شياطينِ الغيومِ الدَّاكناتِ وبينَ عَبَثِيَّةِ وَقَسْوَةِ الرِّياحِ الغَرْبِيَةِ العاتيَةْ ...
إهتَزَّتْ صَفْحَةُ الماءِ تَحْتَ السَّفينَةِ وانفتَحَتْ أبوابُ السَّماءِ بماءٍ وبَرَدٍ مُنْهَمِرْ؛ وبدأتْ حَبَّاتُ البَرَدِ الثَّقيلَةِ كما لو أنَّها الشُّهُبُ السريعَةُ بِطَرْقِ جِسْمِ السَّفينَةِ ومن علَيْها من البَحَّارَةِ والمسافرين على ظَهْرِهَا؛ ولَمْ يُكُنْ من نتوءٍ على سطحِ مياه المُحيطِ الهائِجَةِ سوى تلك السَّفينةِ؛ فكانت هَدَفاً لِقَصْفِ الرُّعودِ وجُنونِ العواصِفِ الَّتي تلاحَقَتْ حتَّى كادتْ أنْ تُغْرِقَها؛ ولم يَكُنْ أمامَ من علَى ظَهْرِها منَ البَحَّارَةِ والنَّاسِ؛ كباراً وصغاراً؛ سوى القَفْزُ الى المياهِ؛ أو البقاءُ في حُجُراتِها الضَّيْقَةِ وهي تَغوصُ ثُمَّ تَطْفُو مُتَرَنِّحَةً في عُمْقِ جُنُونِ الأمواج...
نَظَرَ أحَدُ البَحَّارَةِ الَّذينَ اعْتَادوا على تَقَلُّبِ مِزاجِ المُحيطِ وصَقَلَتْ تجَارُبُ المُحيطِ عَقْلَهُ وعَظْمَهُ وجِلْدَه؛ الى طِفْلٍ صَغيرٍِ وقَدْ أعياهُ الدُّوارُ الى أنْ سَقَطَ من حَافَّةِ السَّفينَةِ الى الماءِ واستَقَرَّ بينَ أنْيابِ وَحْشِ الأمْواج؛ لم يَكُنْ أمامَ البَحَّارِ سوى انْ يَقْفِزَ وراءَهُ على أمَلِ أنْ يُنْقِذَه؛ مُحاوِلاً التَّشَبُّثَ بالسَّفينَةِ مرَّةً أُخرى وبينَ ذِراعَيْهِ الصَّبِيُّ؛ لكِنَّما أبْعَدَ المَوْجُ السَّفينَةَ؛ مُلْقِيَاً بالبحَّارِ وبالصَّبيِّ بعيداً عن ذَيْلِها؛ وهكذا وَجَدا أنْفُسَهُما بيْنَ شَدْقَيِّ المَوْجِ؛ صارَعَ البَحَّارُ المَوْجَةَ الَّتي إستَحْوَذَتْ عَلَيْهِما؛ وهوَ يُدْرِكُ أنَّ انْدياحَ حَرَكَةَ المَوْجِ فَوْقَ سَطْحِ المُحيطِ مُجَرَّدَ خِداعٍ بَصَرِيٍّ؛ فالمَوْجُ في الحقيقَةِ يتَحَرَّكُ مُراوِحاً مكانَهُ؛ وإنْ بدا وكأنَّهُ يَنْداحُ تِلْقاءَ حَوافِّ المُحيطِ !!...
قالَ للصَّبِّيِّ بصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ واضِعاً شَفَتَيْهِ في اذُنِهِ مُباشَرَةً: لا تَجْزَعْ يا بُنَيَّ؛ ولا تَسْتَسْلِمْ؛ فَتَهْضِمُكَ المَوْجَةُ؛ إنَّ جَزَعَكَ سَيَهْزِمُني أمَامَها؛ بِحَيثُ لا أقوى على الإحتفاظِ بِكْ... ساعِدْني بأنْ تَبْقَى صبوراً شُجاعاً...وتأكَّدْ من أنَّنا إنْ صارَعْناها بالصَّبْرِ وبالشَّجاعَةِ وبالمهارَةِ وبالحِكْمَةِ وبِطولِ النَّفَسِ؛ فإننا سَنُفْلِتُ منها؛ ومن غَيْرِها؛ ولَرُبَّما نَعْثُرُ على جزيرَةٍ صغيرَةٍ في عُمْقِ هذا المُحيطِ تُؤوينا؛ حتَّى نُزاوِلَ السَّفينَةَ مرَّةً أخْرى؛ إنْ نَجَتْ؛ فإنْ غَرِقَت السَّفينَةُ؛ فالأمْرُ سِيَّانَ إذنْ يا صغيري؛ فلا فَرْقَ بَيْنَ الغَرَقيْنِ حينَها؛ إنَّني أتَوَقَّعُ بّعْضَ الجُزُرِ الصَّغيرةِ الَّتي رُبَّما نُصادِفها هنا... تَشَبَّثْ بِيَ يا صغيري؛ وإيَّاكَ أنْ تَضْعُف...
أفْلَتَ البَحَّارُ ومَعَهُ الصَّبِيُّ مِنَ مَوْجَةٍ تِلْوَ أخرى؛ لَمْ تَكُنْ هَزيمَةُ الأمواجِ سَهْلَةً أبَداً؛ لكِنَّما واصَلَ البحَّارُ نِضالَهُ؛ مُسْتَمِدَّاً العَزْمَ مِنْ حِرْصِهِ على الصَّبِيِّ؛ ومِنْ وَعْدِهِ الَّذي قَطَعَهُ لَه؛ ومِنْ ضِيقِهِ بِقَسْوَةِ وَبعبَثِيَّةِ وَبظُلْمِ حَرَكَةِ المُحيط ... حَتَّى أفْلَتَ منْ آخِرِ مَوْجَةٍ الى حافَّةِ الجزيرَةِ الصَّغيرة؛ فَوْقَ الصُّخورِ النَّاتِئاتْ اللَّواتي يتَداخلُ معها بَعْضُ الرَّمْل الرَّطْبِ؛ وحيثُ نَمَتْ على حوافِّ قيعانِها بَعْضُ الطُّفيْليَّاتِ الطُّحْلُبِيَّةِ...أخَذَ البَحَّارُ نَفَساً عميقاً؛ ووَضَعَ الصَّبِيَّ على بُقْعَةٍ منَ الرَّملِ إستَقَرَّتْ بيْنَ الصُّخور؛ والَّتي يَطْفو على سَطْحِها ماءُ البَحْرِ المالِح...ولمَّا يَزَلِ اللَّيلُ مُخَيِّماً؛ لكِنَّما بدأت العواصِفُ تَنْحَسِر...
هدَّأَ البحَّارُ من رَوْعِ الصَّبِيِّ... قال: إهدأ ياصغيري... فإنْ كانَتْ لَمَّا تَزَلُ العواصِفُ دِثارُنا حتَّى الآنْ؛ فَقَدْ نَجَوْنا على الأقَلِّ مِنْ أنْ يُطيحَ بِنا جُنونُ المَوْجِ نَحْوَ الغَرَقِ؛ وَمِنْ أنْ يَسْحَبَنا قَعْرُ المُحيطِ طعاماً للسَّمَكِ المُتَوَحِّشِ التَّوَّاقِ لرائِحَةِ دِماءِ البَشَرْ...
ثمَّةَ أملٌ يا صغيري؛ بأنْ تَنْجو السَّفينَةُ ونُزايلها من جديد؛ بَعْدَ أنْ يَنْحَسِرَ هذا الطُّوفانُ من جُنونِ السَّماءِ والمُحيط... ثمَّةَ أمَلْ....
ولكن يا صغيري؛ قد يطولُ بنا المُقامُ هُنا... لِذا؛ عَلَيْنا أنْ نَسْتَعِدَّ لما هو أسْوأ... ولا بُدَّ من التَّكَيُّفِ مَعَ حياةِ الجزيرَةِ الضَّيْقَةِ الصَّغيرة القاسيَةِ على قاعِدَةِ مُواجَهَةِ الصِّعاب؛ بالإرادَةِ وبالصَّبْرِ وبالجُرأةِ وبالشَّجاعَةِ على تَحَدِّي المحيط وبالأمَلِ وبالعَمَلِ على الإقْتِصاصِ مِنَ المُحيطِ بَعْضَ ما نستطيعُ من طعامِنا وشرابِنا؛ مِمَّا سيمنحنا القوَّةَ؛ والقدرة على البقاءِ؛ ويجِبُ أنْ نراقِبَهُ ونَفْهَمُ حَرَكَتَهُ جَيْداً؛ فَهُوَ لَنْ يَكُفَّ عَنْ إلقاءِ حَنَقِهِ باتِّجاهِنا بِفَجْأةِ العواصِفِ وبِقَسْوَتِها...
أكْمَلَ البَحَّارُ وَصِيَّتَهُ وقَدْ كانَ أنْهَكَ جَسَدَهُ عِراكُ مَوْجِ المُحيط؛ وقدْ غارَتْ على جَبْهَتِهِ سَبْعُ خُطوطٍ مُكْتَمِلاتٍ إلاَّ واحِداً من عقودِ الزَّمَنِ الَّتي تَشِي بِعُمُرِهِ الحقيقي؛ بِرَغْمِ ما يَبْدو عليهِ من صِحَّةٍ وعافيَةٍ وقُوَّةٍ وذاكِرَةٍ نابِضَةٍ حيَّةٍ وثَّابة...
قال: يا صغيري... هُنا لَيْسَ في مُتَناوَلِنا مِنْ طعامٍ الاَّ ما نَظْفَرُ بِهِ مِنَ السَّمَكِ النَّيءِ المالِحْ.... هُنا لَيْسَ ثَمَّةَ ماءٌ عَذبٌ نَشْرَبَهُ سوى ما نَحْصُلُ عليْهِ منْ جَوْفِ السَّمَكِ المالِحْ؛ فالسَّمَكُ يَحْتَفِظُ بقليلٍ من الماءِ العذبِ في جَوْفِه...
وهاكَ هنا على شاطيء الجزيرة بَعْض أشجارِ جَوْزِ الهِنْد؛ سيمنحُنا ثمرُها إذا ما هَزَزْنا جذوعَها بِقُوَّةٍ ما نَحْتاجُهُ من غذاءٍ وشراب؛ وهي كذلك ستَعْصِمُنا إذا ما تشَبَّثنا بجذوعِها وبجذوع السِّنْدِيان المنتشر بجوار حواف الجزيرة القُدْرَةَ على مواجَهَةِ قوَّةِ سُرْعَةِ الرِّياحِ أثناءَ العواصِف الَّتي سَتَضْرِبُ حوافَّ وعُمْقَ الجزيرةِ من كلِّ الجوانبِ وقْتَ العواصِفِ القادِمَةِ من تلقاءِ المحيطْ...
وثمَّةَ طيورٌ تأوي الى الجزيرةِ يا صغيري ولها تَجاربها الفِطْرِيَّة مع المحيط؛ وهي تتوارثُ تلك التجربة بالفطرةِ جيلاً بعدَ جيلٍ؛ إنَّ حَرَكةَ طَيَرانها في كَبِدِ السَّماءِ في بَعْضِ الأوقاتِ أثناءَ النَّهارِ سُتُنْبِئُنا بِقُرْبِ بدايَةِ الأنواءِ والعواصِفْ... هي تَسْتَكشِفُ وتَفْضَحُ نوايا المُحيط الَّذي من شيمته الغَدْرُ بها وبنا؛ وتستَشْعِرُ تَبَدُّلَ حَرَكَة الرِّياح الَّتي تتواطؤُ مَعَ غَدْرِ البَحْر...وهي ربَّما يا صغيري تستلهِمُ كل ذلك منْ إشاراتٍ تُرْسِلُها عَيْنُ الشَّمْسِ في عِزِّ الظهيرةِ عنْدَما يَتَلَوُّنُ شُعَاعُها ويتَمَوَّجُ كما لو كانَ يُحاكي سرابَ الصَّحراءِ لكن فوق سَطْحِ المُحيط...
إذنْ هذه دالَّتُنا يا صغيري في معرفة نوايا المحيط... عَيْنُ الشَّمْسِ وَالحركة الفطريَّة للطُّيور المحلِّقة في كَبِدِ السَّماءِ الصَّافية الَّتي ترى ما لانراهُ نَحْنُ والتي تفْهَمُ لُغَةَ وإيحاءات الشَّمس في عزِّ الظهيرة... وملاذنا ياصغيري تلك الأشجارُ الَّتي صمَدَتْ على مرِّ الزَّمانِ في مواجهة الأنواءِ والعواصف؛ وبَقيَتْ جذورُها في عُمْقِ التُّراب وكانت على الدَّوامِ عَصِيَّةً على الإقتلاع؛ تَشْرَبُ عذبَ الماءِ من الأعماقِ بِجوارِ البحر المالح...
وحتَّى تَظْهرَ السفينَةُ وقد نَجَتْ... لَيْسَ ثَمَّةَ... يا صغيري... سوى تحدِّي قسوة المحيط وظلمه... وليسَ ثمَّة لنا إلاَّ قوَّة الأمل... ولا سَلْوى لنا إلاَّ أحلامنا الجميلة... ولا خيارَ أمامنا سوى تَحدِّي المحيط.... هي الجزيرة الضيقة الصغيرة التي يُحاصرها المحيط... لكنَّما لا يقوى على محاصرة ما فيها من أحلام ورؤىً.