المراجل تغلي ولا من يصب الماء
ملاحظة: من يكتفي بقراءة عنوان مقالتي دون إكمالها يضعني رغماً عني في موقف حرج، وكثيراً ما تلقيت ردوداً قاسية على العناويين فقط، وفي الإعلام فإن التوضيح المتأخر لا يجدي بعد الضربة الأولى.
****
المراجل.. أقصد بها الأواني الضخمة، المملوؤة بالماء والمغلقة بإحكام، وليس ذلك المعنى الذي يتبادر إلى الذهن، والذي يقصده أهلنا حين يرغبون في التعبير عن إعجابهم بموقف شجاع، أو حين يسخرون من الهاربين من أي موقف أو موقع أو معمعة، باستخدام مصطلح "الشراد أي الهروب ثلثين المراجل".
في بلادنا تنمو وتتسع حالة المراجل التي أقصدها... أي الأزمات، وإذا ما درس أي مراقب من الداخل والخارج حال مجتمعنا، فلا مناص من أن يخرج بخلاصة تدعو إلى ما هو أكثر من القلق، وهي أن بلدنا ومجتمعنا هما أكثر الكيانات في هذا العالم اكتظاظاً بالأزمات، ولا أعتبر الاحتلال أزمة لأنه أفدح من ذلك، فهو المرجل الأوسع المغلق بإحكام، والذي له إسهام كبير في التزويد بالنار، إلا أن الأزمات التي أقصدها هي الأزمات الداخلية التي لو اخترع عداد لإحصائها وتصنيفها، فإنه ودون مبالغة سيسجل أرقاماً قياسية تضمن لنا تفوقاً ملحوظاً على كل الكيانات المماثلة لنا أو القريبة منا.
تحت بند الأزمات الصغيرة، فهي موجودة ومتوالدة في كل مكان من الفرد إلى الأسرة إلى القرية والمدينة، وكل ما يوجد على أرض هذه البلاد، وتحت بند الأزمات المتوسطة، فهي كذلك تنشأ وتتوالد وتضرب بأذاها حياتنا التي نحاول اختراعها وتثبيتها عند حدود غير كارثية، قدر المستطاع، في زمن الاحتلال وإغلاق نوافذ الحل، وتحت بند الأزمات الكبيرة "الرزايا"، فكل يوم واحدة، وكل أسبوع واحدة أخرى أكبر منها، ولأننا نعتمد في محاولات الحل القيام بحفر حفرتين لردم واحدة، فلا مناص والحالة هذه من أن نقف على حافة الخطر.
سأنحي من السرد عدة قضايا كبيرة تتصل بجانب كبير منها بغيرنا، لننحِ الأزمة السياسية جانباً بفعل الإغلاق المطبق على الفرص، ولننحِ استعداد إيران لشراء أسهم في حقل الدم الفلسطيني برأس مال شديد التواضع، ولننحِ جانباِ تراجعات أوروبا عن مواقفها في أمر المقاطعة واسترضائنا بتصريحات بليغة تذكرنا بمأساتنا لا أكثر ولا أقل، ولننحِ جهود السيد المحترم جون كيري التي بدأها كما لو أنه عضو في منظمة التحرير الفلسطينية أيام ازدهارها ليختمها أخيراً بوساطة بائدة لا لون ولا طعم ولا نتائج.
ومن هذا القبيل سننحي كثيراً وكثيراً جداً، لنترك مساحة لاستعراض بالعناويين لما يمور في مجتمعنا من أزمات هي كلها من صنع أيدينا.
وها آنذا أتوقف عن سرد الأمثلة والعناويين لضيق المساحة ولأخلي مكاناً للاجتهاد بتحديد جذر ظاهرة توالد الأزمات، ولأنني أوافق على اتهامي بتبسيط الأمور، فإن الأمر في الواقع بسيط، إلا أنه في الوقت ذاته مستحيل الحل إذا ما واصلنا طريقة العمل ذاتها بتفضيل الهروب من مشكلة إلى التي تليها دونما حل لا لهذه ولا لتلك.
إن النتيجة الحتمية والمقلقة بالتأكيد أن المراجل ستظل تغلي وستجد دائماً من يزودها بالنار ولا من يصب الماء البارد عليها.