كتب: أحمد زكارنة
إنطلاقاً من الإيمان بمقولة إن النص لا يبدأ لينتهي، ولكنه ينتهي ليبدأ، أتأمل في هذه العجالة ملامح الوعي ونزوعه للمجابهة، في علاقة الكاتب بالزمان والمكان، ولئلا تحسب هذه القراءة، باعتبارها قراءة نقدية بالمعنى المجرد لمفهوم النقد، أنوه أنني هنا بصدد قراءة لمشهد ند قد يساهم في فتح المزيد من آفاق التحدي، ويشكل رافداً آخر من روافد المجابهة، والأهم أنه يمنحنا قسطاً من الأمل في ظل ارتفاع سقف الشعور بالخذلان.
قبل أيام قليلة طالعتنا الأخبار الواردة من معرض الشارقة الدولي للكتاب، على حصد رواية 6000 ميل للكاتب والروائي الفلسطيني محمد مهيب جبر الصادرة عن دار الجندي للنشر والتوزيع، لجائزة أفضل كتاب عربي لعام 2013، ما يؤكد برغم جمرة التغيرات الدراماتيكية التي عصفت وما زالت بالمنطقة العربية، على حيوية الرواية الفلسطينية النقيضة لرواية المحتل الغاصب.
الرواية التي جاءت في 207 صفحة من الحجم المتوسط، وتم طرحها للنقد ضمن فعاليات ندوة اليوم السابع الثقافية التي تقام في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس، وبحسب الكاتب والناقد المقدسي جميل السلحوت، تضع القارئ ومنذ سطورها الأولى في مواجهة مع جدلية مفهوم الوطن، حين نجد الكاتب يتحدث عنه قائلاً: «نحن لا نرث الأوطان من أسلافنا فحسب، بل نستلفها من آبائنا وأجدادنا... ولهذا لا خيار لنا إلّا أن نردّها للخلف بأفضل مما ورثناه من السلف» ص13، من هنا نجد الكاتب يفتح قوس المنازلة التاريخية، باعتباره تاريخاً عمودياً لا يأخذ من التجربة في صلتها بالزمن إلا عقدتها، أو ما يمكن أن نسميها القاعدة التي يمكننا الانطلاق منها وصوابها في الوقت ذاته، الأمر الذي يجعل من العقدة مفتاحاً سحرياً للحل الذي لا مجال للانزياح عنه.
الكاتب محمد مهيب جبر ابن نابلس جبل النار وبرغم هجرته المبكرة مطلع سبعينيات القرن الماضي، بدا في روايته «6000 ميل» وبوعي كامل الدسم، منشغلاً برفضه للغربة مكاناً للتشظي وبعثرة الأحلام التي لم تُنزع من صدره لتتقاذفها الأفعال وتمسخ وجودها مرارة الواقع، بل كان على النقيض من ذلك تماماً وهو ما أشار إليه الكاتب والأديب الفلسطيني جمعة السمان في قراءته للرواية حين كتب يقول: أرى في هذه الرواية تجسيداً جميلاً لقوله تعالى «فذكر إن نفعت الذكرى»، مشيراً إلى أن هذا التذكير واضحاً وجلياً في أكثر من حوار دار بين بطل الرواية «بيت مارتنيك»، والعديد من شخصيات الرواية ومنهم أوري ليفي العسكري الإسرائيلي المتقاعد، الذي أصر في إحدى حوارته مع البطل على أن الجذور تموت في الأرض أحيانا، أو تصبح هشة لا حياة فيها، وستون عاما دون ماء كانت تكفي لتجفيفها، فيما عارضه “بيت مارتنيك” بطل الرواية متحديا، الجذور لا تموت يا أوري، ولا تصبح هشة، والأمثلة على ذلك كثيرة، البابليون، الأشوييون، الفنيقيون، فراعنة النيل وغيرهم كثيرون، سحقتهم الكوارث، أو أباد الغزاة جميع سكانها الأصليين، كما حصل لشعوب المايا، أو الهنود الحمر، لكن الحجارة ظلت تشهد أن روح تلك الشعوب لم تغادر أمكنتها، وأنها ما زالت تعيش فيها وعلى أرضها ولو بالنبوءات والأساطير، أو حتى اللعنات، وكل حضارة انتهت رسمت صورة بعثها للحياة مرة أخرى في المكان نفسه.
بهذا المعنى يتضح لنا أن الكاتب محمد مهيب مقترناً إلى حد بعيد بتجربته، التي هي في شموليتها امتدادٌ لربما طبيعي لتجربة الفلسطيني أينما وجد، خاصة هؤلاء اللذين مازالوا يصوغون التاريخ بشواهد حية من الذاكرة برغم كل تناقضات المشهد بين العابر والباقي، الأصيل والمزيف، متكئين في ذلك على حقيقة أن آلاف الأميال الجغرافية أو حتى الزمنية لا يمكنها أن تحول بينهم وبين جذورهم.
وبذات المعنى أيضا جدير بنا أن نصفق عالياً لدار الجندي التي انتبهت مبكراً لهذه الرواية، وجازفت بالدخول بها في مسابقة أفضل كتاب عربي في معرض الشارقة للكتاب، وهي مجازفة لا تتوقف فقط عند دخول المسابقة، بل تتخطاها لربما إلى ضمير الغائب في المشهد الثقافي الفلسطيني، ألا وهو ضمير الناشر وصناعة النشر في بلادنا.
هكذا تأخذ علاقة الكاتب بالزمان والمكان بُعداً آخر لا يقل أهمية عن فعل المقاومة المسلحة، هو بُعد الوعي الفاعل الذي يرفض طمس معالمه أو ترك مكانه لمساحيق مزيفة لها بريق زائف سرعان ما يسقط القناع عنه ليبقى هو حاضراً بكل ما أوتى من قوة الحضور، وكأنه يعلن عن عودته من الموت إلى البعث بإصرار فاعل على الإبحار بحثاً عن فردوسه المفقود.