ضوء في الدَّغْل
الحدث: في إحدى الأمسياتِ الشعرية المشتركة في الجزائر، والتي شارك فيها وحضرها شعراء وكتَّابٌ من مختلف الدول العربية، توجَّهَ إليَّ أحدُ المشاركين معبِّرًا عن إعجابِه بما ألْقيْتُ قائلا:"لا فضَّ فوك يا أخا العرب"، ولأنِّي أردْتُ مشاكسته وإضفاء الطرفة على الموقف أجبْتُه بأنني لستُ عربيًّا، وأنَّ الأصحَّ أنْ يقول لي:"لا فضَّ فوك يا أخا العجم". ضحكْنا لحظتها كثيرا لأنَّ المشارك أعلنَ بسرعة بأنَّني مستشرق حين تيقَّن بأنني أمازيغيّ من شلوح الجنوب ساكني القصور العتيقة. حينها توجَّه إليَّ بالسؤال:هل هناك أعراق أخرى غير العرب في الجزائر؟
لقد افتتحتُ العمود بهذه الحادثة الطريفة لأتحدَّثَ عن أزمةٍ ثقافيّة وعن فجوةٍ سحيقة تفصل الآدابَ المغاربية بشكلٍ عامٍّ عن المشرق، وعن واقعٍ مخيِّبٍ يثبتُ في كلِّ مرَّة بأنَّ المشارقة لا يعرفون عن أدبنا، وأخصُّ هنا الأدب الجزائريّ، إلا الأسماء التي اشتهرتْ إمَّا لمشاركتها في الحركة الثقافية المشرقيَّة أو تلك التي ذاع صيتها بسبب الثورة الجزائريَّة. وعلى العموم يكتشف المتتبِّع بأنَّ الأسماء المعروفة عند الإخوة العرب قد تنحصر في الرواية في:"الطاهر وطّار وواسيني الأعرج وأحلام مستغانمي"، وفي الشعر:"مفدي زكرياء". لكنَّ خارطة الأدب الجزائريِّ أوسع بكثير من أنْ تحصر في أسماء لا تتجاوز اليد الواحدة، بل الأكثر من هذا أنَّها خارطة غنية بتجاربها المختلفة وأساليبها المتنوِّعة، وأيضا بلغتها التي تضعنا أمامَ ثلاثة آدابٍ جزائرية:الأدب الجزائريّ المكتوب بالعربية، والأدب الجزائريّ المكتوب بالأمازيغية، والأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية.
لماذا لم يصل الإبداع الجزائريُّ إلى المشرق بالصورة الحقيقية التي يستحقها؟ هل الأمرُ راجع إلى مركزياتٍ ثقافية معينة؟ أم إلى الظروف؟ هل السبب داخليّ أمْ خارجيّ؟ هل نحن من قصَّر في تصدير أدبه؟ كل هذه الأسئلة مشروعة وتحتاج الإجابة عنها إلى وقتٍ وتفصيل. لكنَّ السؤال الذي يجب طرحه في نظري هو التالي:كيف وصلتْ الإبداعاتُ المشرقية إلى الجزائر وإلى الإنسان الجزائري؟ لا ريبَ أنَّ الأمرَ راجع بالدرجة الأولى إلى الاهتمام، لأنَّ الجزائريَّ منذ الحقبة الاستعمارية جعلَ مرآته التي ينظر فيها سجِلاًّ لتاريخه الضارب في أعماقِ الماضي من جهة، ولانتمائه الذي ارتضاه لنفسِه والمتمثِّل في علاقته الثقافية بالعربية والإسلام. هذه الرؤية دفعتْ الجزائريين إلى البحث عن الإبداعاتِ المشرقية، لدرجةٍ صارتْ تؤدِّي أحيانا إلى التغطية على الإبداع الوطنيّ !!! غير أنَّ الفكرة المهمَّة هنا تكمن في أننا بذلنا جهدًا نفيسا في تعريف أبنائنا بملامح الأدب العربيّ الذي ينشر في المشرق وبشخصية الإنسان المشرقيّ من وراء ذلك. وكان من مظاهر هذا الجهد أنْ أُدرجتْ أسماء كثيرة معروفة وبعضها غير معروف في البرامج التعليمية مثل ما هو الحال في المستوى الثانوي وغيره. أمَّا في الجامعة فلا يمكن حصر الرسائل الجامعية والدراسات الأكاديمية التي جعلتْ نماذجها التطبيقية أسماءً أدبية مشرقية في مختلف فنون الأدب شعرا ونثرا، وفي عديد التخصصات فلسفة واجتماعا وفكرا...
أكتبُ هذا المقال بمرارة وأنا أرى كلَّ يومٍ أسماءً جزائرية ليست معروفة بالقدر الذي يليق بها، وهي تبدعُ بحساسيتها الخاصة وبجمالياتٍ مبتكرة تطبعها شخصية الإنسان الجزائريّ المتعددة المشارب، وتاريخه الذي صنع تركيبته الخاصة. في الجزائر إبداعاتٌ تستحقُّ القراءة والدراسة جزائريا وعربيا، وإبداعاتٌ أخرى كتبها أصحابها باللغة الأمازيغية والفرنسية تستحق الترجمة لتصل إلى القارئ العربيِّ، ليتعرّف هذا الأخير على رؤية الإنسان الجزائريِّ إلى العالم وإلى ذاته، ويرى فيما يرى اللغة العربية، روح العربية، تتجلَّى بدمٍ مختلفٍ صهرتْه التجارب على هذه الأرض منذ آلاف السنين.
ملاحظة:
كنتُ قد كتبتُ في فاتحة المقال حادثة غير التي قدَّمتُ بها، تتعلَّق بعدم معرفة الكثيرين بالمرحلة الدمويَّة التي كنَّا فيها نُذْبح، والتي تركتْ حصيلة 200 ألف قتيلٍ، وكان بعض الإخوة العرب يومها يبعث"علماؤهم" بفتاواهم إلى المتطرفين مؤيدين خيارهم بالجهاد فينا؛ كنت سأفتتح بهذا، لكنِّي أحجمْتُ لعلمي بأنَّ المشرق ليس هؤلاء فقط، وأنَّ الإخوة المشارقة أكبر من هذه النماذج.