الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

" إدوارد سعيد: أيُّها المثقَّفُ الحقيقيُّ.. كم نفتَقِدُك !! ". بقلم: رائد دحبور.

2016-03-07 04:02:41 PM
رائد دحبور

 

أذْهَلَنِي المُفكِّرُ الفذُّ والبروفيسور الأمريكي من أصلٍ فلسطيني المرحوم " إدوارد وديع سعيد " وهو يتحدَّث عن نفسه بكلِّ تلقائيَّةٍ وشفافيَّةٍ وصراحة في كتابِ مذكَّراتِه " خارج المكان " الَّذي كتبه بعدَ أنْ تلقَّى تقريراً طبيَّاً مُبْرَماً يُفيدُ بإصابَتِهِ بمرضِ السَّرطان في مراحِلِه الأخيرة في حدود عام 1996.. وكان قد تركَ لنا قبل ذلك سبعةَ عشرَ مؤلَّفاً كان أبرزُها " الثَّقافة والإمبرياليَّة " و " الإستشراق " و " وتأمُّلاتٍ حول المنفى ".

 

كان " إدوارد سعيد " قد وُلِدَ في القدس في العام 1935 لوالدين فلسطينيين هما "وديع سعيد " من القدس و "هيلدا موسى " من النَّاصرة.. حيثُ ارتبَطَ كلٌّ من وديع و هيلدا عبر زواجٍ تقليدي عام 1932 كما يذكر إدوارد سعيد، وبعدَ أنْ كان والده وديع قد هاجر إلى الولايات المتِّحدة في مطلع العشرينيَّات من القرن الماضي وحصل هناك على الجنسيَّة الأمريكيَّة عاد ليقتَرنَ بأمِّه هيلدا وهي لمْ تَكَدْ تبلُغُ سوى ثمانية عشر عاماً من العمر، والَّتي عادتْ إلى النَّاصرة من بيروت، حيث كانت تدرسُ هناكَ ضمن مدرسَةٍ داخليَّةٍ للبنات وكانتْ عودتها إلى النَّاصرة وانتزاعها من بيئة التَّعليم في بيروت لغاية الاقتران بوديع سعيد تحديداً كما يذكر، وقد غادرا للإقامَةِ في القاهرة بعد اقترانِهِما في بداية الثَّلاثينيَّات من القرن الماضي، حيثُ كانتْ مصر الملكيَّة في ذلك الحين تخضع لنظام الكلونياليَّة الإنجليزيَّة – الاستعمار والنُّفوذ الإنجليزي – وقد واصلا ارتحالَهُما بين القاهرة والقدس طوال السَّنوات الممتدَّة من بداية الثَّلاثينيَّات وحتَّى نكبة عام 1948.

 

يقول إدوارد سعيد: لسببٍ أساسيٍّ حَرِصَ والديَّ على أنْ أوْلَدَ في القدس؛ لذا فقد طالت إقامتهما في القدس عام 1935 حيثُ وُلدْتُ هناك في ذلك العام، وعشتُ فيها أجزاءً من طفولتي وتشكَّلَتْ فيها لديَّ بعض الذِّكريات.. يأخُذُنا إدوارد سعيد في رحلَةِ عمره ابتداءً من طفولته ووعيه على الحياة مروراً بمراحلِ دراسته المختلفة في كلٍّ من القاهرة وأمريكا إلى حين حصوله على الدَّرجات العلميَّةِ العليا في الآداب من جامعات الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة.

 

أذهلتني صراحتُه وهو المُثقَّفٍ البارز المُتميِّز، وهو يتحدَّثُ عن تفصيلاتٍ في حياتِه الشَّخصيَّة الخاصَّة - وقد كان في غنىً عن الحديثِ حولها لوْلا كونه من ذلك النَّوعِ من المثقَّفين الموضوعيين الواقعيين الصَّادقين مع أنفسهم ومع غيرهم حيث يتصدُّون لمهمَّةِ كتابَةِ سيرتهم الذَّاتيَّة وتدوين تجاربهم بأنفُسِهِم دونما مُخاتلةٍ أو إعطاءِ ذواتِهم مقاديرَ مبالغٍ فيها من التَّقييم والتقدير الإيجابي المتفوِّق على أقرانِهم من البشر – فنجده وعلى سبيل المثال يتحدَّث عن إسْمِهِ غير العربي وعن طبيعةٍ غير منسجمة ولا مُتجانسة بين مقطع اسمه الأوَّل " إدوارد " وبين " سعيد "، وعن رؤيته الضَّبابيَّة الغامضة المُسبِّبَةِ للإزعاج بالنِّسبَةِ إليه لطبيعةِ اسمه " إدوارد " أساساً كما كان يراه، ولطبيعة تعامله الإشكاليِّ مع ذلك الإسم منذ سنيِّ طفولته وحتَّى نهايةِ حياتِه، كما عن إشكاليَّة اللُّغة الإنجليزيَّة العربيَّة المزدوجة الَّتي اكتسبها في بيئته الأسريَّة منذ سنيِّ طفولته المبكِّرة حيثُ ترسَّختْ تلك الإشكاليَّة عبر دراسته في المدارس الإنجليزيَّة والأمريكيَّة في القاهرة أثناءَ مرحلة طفولته في سنوات الأربعينيَّات. كما أذهلني حديثُه التِّلقائي الصَّريح الشَّفَّاف عن شخصيَّته الأحاديَّة والمركَّبة والمتناقضة – بحسَبِ تعبيرِه - والَّتي كان يعوزها كثيرٌ من الثِّقة بالنَّفس على المستوى الجوَّاني وحتَّى على مستوى الموقف من التكوين الجسديُّ الجسماني، كما على مستوى الماهيَّة الحقيقيَّة للهويَّة الثقافيَّة المزدوجة، وكذلك عن طفولتِهِ برُمَّتِها، وعن ذكرياته وسيرته الذَّاتية وذلك عبر فصول كتابه " خارج المكان " وخصوصاً في الفصل الرَّابع من ذلك الكتاب الرَّائع.. أذهلتني تلك الشَّفافيَّة والصَّراحة منقطعة النَّظير في توصيفه لسايكولوجيَّة والده ووالدته ولثقافتَيْهما وحتَّى لصفاتِهِما الجسديَّة، ولطبيعة أسرته الممتدَّة وعلائقها الاجتماعيَّة المضطربة بين إخوةٍ وأخواتٍ وأعمامٍ وعمَّاتٍ وأخوالٍ وخالات، ولطبيعة نظرتهم وتقييمهم السَّلبي المُتَدَنِّي له تحديداً في سنِيِّ طفولته ومراهقته وشبابه، وخصوصاً بما يتَّصِلُ بطبيعةِ نظرةِ والديه إليه !!.

 

يقولُ في مقدِّمِ الفصل الأوَّل من كتابه " خارج المكان " تعريب وترجمة فوَّاز طرابلسي، منشورات دار الآداب: " تختَرِعُ جميع العائلات آباءَها وأبناءَها، وتمنحُ كلَّ واحدٍ منهم قصَّةً وشخصيَّةً ومصيراً، بل إنَّها تمنحه لغته الخاصَّة.. وقعَ خطاٌ في الطَّريقةِ الَّتي تمَّ بها اختراعي وتركيبي في عالمِ والديَّ وشقيقاتي الأربع. فخلالَ القسط الأوفَرُ من حياتي المبكرة، لمْ استطعْ أنْ أتبيَّنَ ما إذا كان ذلك ناجماً عن خطأي المستمر في تمثيل دوري، أو عن عَطَبٍ كبيرٍ في كياني ذاته.. وقد تصرَّفتُ أحياناً تجاه الأمرِ بمعاناةٍ وفخر، وأحياناً أخرى وجدتُّ نفسي كائناً يكادُ يكونُ عديم الشَّخصيَّة وخجولاً ومتردِّداً وفاقداً للإرادة. غير أنَّ الغالب كان شعوري الدَّائم أنِّي في غيرِ مكاني ".

 

كذلك أذهلني حديثه الصَّريح عن أدائِه وتقييمه المتدنِّي في مدرستيِّ " إعداديَّة الجزيرة " ذي منهجِ التَّعليم الكلونيالي الإنجليزي التراتبي الجامد في حيِّ الزَّمالك في القاهرة في مطلع الأربعينيَّات، ومدرسة " القاهرة للأطفال الأمريكيين " ذي التَّوجهات التي تمزِجُ بين منهج التربية والتَّعليم على أساسٍ كلونياليٍّ قديمٍ متجدِّدٍ امبرياليَّاً من حيث الأهداف والغايات، وبين منهج التَّعليم على أساسِ تشاركيٍّ تفاعليٍّ حديثٍ في أوساطِ الرَّعايا الأمريكيين في القاهرة نهاية الأربعينيَّات، حيث كان واحداً من أولئك الأطفال الأمريكيين استناداً إلى جنسيَّةِ أبيه رجل الأعمال البارز " وديع سعيد " الأمريكيَّة.

 

يقول عن ذلك في الفصلِ الرَّابع من كتابه: " أجبَرَتْني المدرسة الأمريكيَّة على أخذِ - إدوارد – على محملِ الجدِّ أكثرَ من ذي قبل، بما هو كائنٌ معطوبٌ وفزِعٌ وضعيف الثِّقةِ بالنَّفس.. وكان الشُّعور العام المُسَيْطِر عليَّ هو شعوري بامتلاكِ هويَّةٍ مضطربة، أنا الأمريكيُّ الَّذي يُبْطِنُ هويةً عربيَّة أخرى لا أسْتَمِدُّ منها أيَّةَ قوَّةٍ؛ بل تورِثُني الخجلَ والانزعاج. ورأيتُ عند - زملائي في المدرسة – ستان هنري و ألِكْسْ ميلَرْ هويَّةً أكثر اشتهاءً، صلدَةً كالصَّخرِ ومتطابقة مع الواقع.. بل إنَّ جانْ بيير و ملَكْ أبو العزّ وحتَّى ألبير كرونيل – رغمَ كونِهِم يهوداً مصريين يحملون جوازاتِ سفر إسبانيَّة – يستطيعون أنْ يُحقِّقوا ذواتَهُم، فلا شيءٌ عندهم يحتاجُ إلى إخفاءٍ، ولا هم مضطَّرون إلى تمثلِ دور المواطنين الأمريكيين ".

 

كنتُ أعتقد أنَّ " إدوارد سعيد " سيحرِصُ في فصول كتابه – الإحدى عَشَر - على إبراز الصِّفات الدَّالَّة على تميُّزِه وإبداعه كمفكِّرٍ ومثقَّف فوق العادة – وهو بطبيعة الحال كذلك بلا أدنى شكّ - وإذا به يأخذنا في رحلَةٍ عفويَّةٍ تلقائيَّة عبرَ ممراتٍ ودروبٍ يكشِفُ لنا متاهاتِها على مستوى شعوره وإحساسه الجوَّاني تجاه شخصيَّتِه والَّتي كانت ترسمُ علاماتها البيئةُ الاجتماعيَّةُ والدّيِنيَّةُ والتربويَّةُ والمذهبيَّة والسياسيَّة آنذاك وتساهمُ في بناءِ مداميك شخصيَّتِه، حيثُ نجده يناقشُ مكوِّناتِه الشَّخصيَّة على مستوى الجسم والذُّكورة والتحصيل الأكاديمي والموقف الضَّبابي المرتبك والحَذِر من الجِنْس في الثَّقافات التربويَّة الشَّرقيَّة بما فيها المذهب البروتستنتي الَّذي تنتمي إليه عائلته – وكيفيَّةِ تأثير ذلك في صياغةِ وعيه الإدراكي والوجداني وموقفه السيكولوجي والسُّلوكي منه – كما نجده يناقش الحوافز والدَّوافع الشَّخصيَّة، والقدرات المهارات والإخفاقات، في مناخ الإضطراب والاغتراب الثقافي وأزمة ازدواجيَّة الهويَّة والانتماء بمنتهى الشَّفافيَّة والصَّراحة !!.

 

إدوارد سعيد: أيُّها المثقَّفُ العربيُّ الفلسطينيُّ من حيث الهوية والإنتماء وصوابيَّة الرؤية.. أيُّها المثقَّفُ الحقيقيُّ الشَّفَّاف والغزير في آنٍ معاً، والمثقَّف فوقَ العادة.. كم نفتَقِدُكْ !!.