لو حولنا أو حوّرنا مقولة: "من الحب ما قتل" لتصبح "من الحرية ما قتل"، سنجد أنفسنا في مواجهة أمر لم نأت به، ولن ينتهي معنا، وإنما أمام شبهة التباس لربما تضفي على البعض منا، صفة المشوش بين وجهين، كلاهما يشبه ملامحه على وجه الدقة.
الأمر لا يتوقف أمام مشروعية سعينا المستمر باتجاه اقتناص حقنا في حرية الرأي والتعبير، وضرورة انحيازنا الدائم لهذا السعي المحق تماماً، ولكنه يأخذ مسارات ترتبط ارتباطاً عضوياً بخصوصية حالتنا الفلسطينية، التي يجب علينا الاعتراف، أنها خصوصية تضع الجميع في دائرة الخلط بين مفاهيم الدولة بتعريفها القانوني الدولي، وبين محاولاتنا الدؤوبة التحرر، ليس فقط من الاحتلال بوجهه العنصري الاستيطاني الكولونيالي، ولكن من ظلاله الاقتصادية والثقافية أيضاً.
نعم، العالم أجمع بات يحيا عصراً لا يستقيم معه، إلا الانفتاح على كافة مصوغات الحياة بكل تفصيلاتها السياسية والاقتصادية والثقافية بشكل جماعي، ولكنه أيضاً عصر يدفعنا، دفعاً نحو ثقافة الأنا الفردية على حساب الـ "نحن" الجماعية، ما يعني أننا ما زلنا ندور في حلقة مفرغة من البحث عن الذات الجمعية لحالتنا الفريدة من نوعها في العصر الحديث، خاصة وأننا جميعاً نعيش تحت نير الاحتلال.
في حالتنا الفلسطينية الداخلية، نحن أمام مشهدين غاية في الأهمية والالتباس.. أولهما أن الكل الوطني من المفترض أنه يعمل، أو يدعي، على بناء الكينونة الفلسطينية على أرض فلسطين تحت مظلة سلطة، انتقد وما زال بعضنا مسوغات قيامها في سياق اتفاقيات مجحفة بالحق الفلسطيني.. والثاني أن لدينا حالة غريبة وقذرة تسمى الانقسام، جعلت من البلد بلدين، ومن الحكومة، حكومتين، ومن السلطة، سلطتين، وإن لم يكن هناك وجه تشابه بين الفعل الحزبي هذا، والفعل المجتمعي المختلف إلى حد بعيد.
وعليه، أعتقد أن على مثقفي هذه البلاد، البحث عن صيغ خطاب مختلف من حيث الشكل لا المضمون، يناقش مع المجتمع، أفكار الحرية المشتهاة على صعيد حق الرأي والتعبير، بما لا يخفض من منسوب هذا الحق أو يمس بأهمية تحصيله، وإنما بما يصوبه باتجاه إعلاء صوت الهم الجمعي الوطني، أعلى من الهم الفردي أو الفئوي أو الحزبي وربما الفكري أو العقائدي.
فلا شك أن المواطن الفلسطيني يدرك، أينما وجد، صعوبة وتحديات المرحلة التي نمر بها، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو حتى الثقافي، ما يستدعي من الجميع بلا استثناء رفع سقف النقد المسؤول على قاعدة أن المشروع الوطني لا ولم يسمى لحساب جهة على أخرى، وإنما هو مشروع فلسطيني شعبي بامتياز، بصرف النظر تعلق الأمر بالكيانية الفلسطينية المحققة اليوم على الأرض تحت عنوان "السلطة الوطنية"، أو تعلق بالحالة الجمعية للشعب الفلسطيني ونسيجه الاجتماعي في سياق مجابهته للمحتل في الداخل أو في الخارج.
في المقابل لا يمكن أن تستقيم دعوة السلطة لبناء دولة المؤسسات، وهي تمارس، بقصد أو دون قصد، ما يمكن تسميته هدم كل ما يرتبط بمفاهيم هذا البناء، فقط لأنها تختلف مع هذه الجهة أو تلك، فما جرى وما زال يجري بين الحين والآخر، على مستوى العلاقة بين شرائح عدة من الشعب والحكومة، إنما يؤدي بشكل واضح إلى تقويض مقومات البناء السليم، على قاعدة المشاركة التكاملية لا المنافسة الصراعية، فضلاً عن كون ما يجري يشير بشكل واضح وجلي إلى وجود خلل في العلاقة ما بين الشعب وقيادته، ما يعني أن على القيادة البحث عميقاً عن أسباب ومسببات هذا الخلل، اليوم قبل الغد، بفهم واعٍ لكون حالتنا الفلسطينية، هي حالة مشتبكة بين القاعدة والاستثناء.