الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

لبيك، لبيك يا عرق!الدبكة الفلسطينية، خيمتنا. بقلم: نداء يونس

2016-03-16 11:16:47 PM
لبيك، لبيك يا عرق!الدبكة الفلسطينية، خيمتنا.
بقلم: نداء يونس

الدبكة هي وعينا الأول بالجمال، وإدراكنا الواعي لخصوصيتنا كشعب، ولوحة نابضة تغرف من القلب ريحانته، وتٌخرج من الجسد شقائق النعمان، وتنعف المريمية على سفوح الروح، فتصير الرائحةُ استدارة الكون، واللونُ دائرة الحياة.

الدلعونا وزريف الطول والجفرا والكرادية والطيارة والدحية هي مفردات الفلسطيني في حقله، وعرسه، واحتفالاته الكثيرة بالحياة، هي شكل الفرح الأول، والحزنِ الاول، والعشقِ البداية.

هي يد فلاح يعزق تراب الحقل على أملٍ، وامرأة تلم السنابلَ من خاصرة الارض، والشمسَ الناضجة، هي رقصة الطير في فضائه المجبول بالموسيقى وشهقته في انطلاقته السهم من يد الصِبْيَة في الطريق الجانبي، وجرةُ الماء من النبع البعيد، ومعلقاتُ الغزل في الشباب الجميل والنساءِ الخَفِرات، وصواني القش في طريق الحقول مأدبةً للزارعين المتعبين، وكانونُ النار في شتاتنا البارد وشتاءِ التشريد الطويل.

هي لغة سرية بين الأرض وعاشقها، فخبطة القدم، وتكرارها، يحيلنا إلى شكل النبض، وصوت الخفقات المكرورة في الجسد، وتعاقب الفصول على الأرض المجبولة بالقداسة، وحركة الأعاصير في المكان الوساع، ودفعة الأعضاء في حال الولادة لشقشقة رحم عن طفل جديد، وتناسل حاملي مفاتيح المكان ورائحته، من جيل عاشق إلى جيل ذبيح.

تلويحة اليد، والتفافها، يحيلان الجسد الطيني إلى وتد، وتنزل ستائرُ من ضوء وأستارٌ من لحن، ويصير الرقص خيمة، والراقصون يرتحلون: من عكا إلى عكو، ومن أسدود إلى أشدود، ومن نابلس إلى شخيم، ومن بيت لحم إلى أفراته، ومن المجدل إلى مجدل جاد، ومن بيسان إلى بيسان، ومن الكرمل إلى الكرمل، يسلم الراقصون على الراقصين، وتشتبك الأيدي بالأيدي، وتتحرك الاقدام كموجة عالية، وتهتف كل خلية في الأجساد، لبيك، لبيك يا عَرَق، وتسيل الألوان، وتختلط، وتخلق من جديد صورة أخرى، يدور الراقصون، ويدورون، ويعلون ويهبطون، يرتفع جسد وآخر، وحلم وآخر، وتلتمع على وجه الرائي حبات العرق. وعندما تنتهي الرقصات، يبدو التشابه مربكا بين الراقصين في الساحة، ربما يصطحب الراقصون الرُحَلُ معهم اوغاريت ومِدْيَنَ وعَمْريت ومادونا إلى هنا، ويبقى غَدي وزينة وعمر ورغد هناك.

اليد التي ترقص، تحمل من الحلم قمحه، تنثره على طول المكان، تقول أنا هنا، أنا عدد الصلوات، وريشة الطائر في قلب المداد وغصن الزيتون الذي ينغرز في صدر رعونة الغريب المالحة، أنا الصوت المبحوح بكلمة لا للغريب، وأنا الأمل.

حركة اليد الأولى تبدأ شكل العبادة الأولى، ترتفع كف عن خاصرة الأرض إلى حجر الإلهة الرصين، وتُقدِم لها القرابين والصلوات، وتحكي، كل حركة رمز، كل التفافة صورة، وكل يد ترتفع، بشرى استجابة، لا يفهمها الغريب.

الدبكة جدارية سمعية وبصرية، تأتلف فيها الحركة وورد الاثواب - بما عليها من رموز ثقافية وتراثية، مع روح المكان والإنسان، تُقَدَّم على شكل لوحات فلوكلورية جمالية وإبداعية معاصرة، وبالأزياء الفلسطينية الغنية بالرموز والتشكيلات الجمالية، والتي تعكس تنوع الحضارة الفلسطينيةً، وتؤصل لموروث غير مادي فني وغني، يعبر عن الإرتباط الوثيق بالأرض والانسان، أولاً، والتمسك بهذه الـ فلسطين، صاحبة الصوت الأنقى، والوجود الأعمق، والقضية الأصعب في ظل سعي المحتل لفصلها عن موروثها واستلابه وتزوير تاريخها لصالح روايته المختلقة، بل وسعيه إلى إعادة إنتاج رواية كنعان بصيغة شائهة وناقصة ومجزوءة ومخلخلة ومقحمة وفظة تحاول تقديم مبررات الآخر لاحتلال المكان واستلاب تراثه، بصيغ عرجاء وزائفة.

الدبكة شكل للتواصل بين مكونات الإرث الحضاري الفلسطيني الأصيل الذي يتصدى لحالة المحو والإلغاء، وطريقة لإرباك حضور الآخر الفج في أدبياتنا وأرضنا وحياتنا وجذورنا، وهي سفيرتنا إلى المنظومة التراثية الإنسانية قاطبة.