د. آمنة الرميلي، كلية الآداب سوسة، تونس
الحدث-
حاول الشاعر في أكثر من مناسبة في هذا "اللوح الأوّل" أن يضبط مفهوم الشعر ووظيفة الشاعر وإن بطريقة إيحائية، قوامها الرّمز والتّلميح، وما التفاتنا إلى هذا إلاّ لأنّه سيعيننا على تلمّس خصائص الفضاء الشعري كما رُسم في هذا الديوان. ونحن نلتقي بمفهوم الشعر عنده منذ القصيدة الأولى في الدّيوان:
أنا
شهوة الحزن للحزن
شهوة الحبّ للحب
شَهْوة النّار للاحتراق
أنا...
أنا الشاعر (ق 1، ص 3)
هذا الاحتفاء المعلن بالشهوة بما هي حركة موغلة في الحميمية، ناتجة عن كيمياء الذّات لحظة إنشاء النصّ يجعل الشعر فعلا ذاتيّا محضا، تمتلك فيه الذّات سلطتها كاملة على الأشياء أي على اللغة، وتصرّفها حسب رغائبها الكامنة ما وعت منها وما لم تع. وأن يتحدّد مفهوم الشعر بالشّهوة منذ مستهلّ الديوان، وفي صدارة القول فإنّ ذلك مردود ــ في نظرنا ــ إلى أنّ مزيد يرى فعلا أنّ الشعر حركة ذاتية، تلقائية، يصعب السيطرة عليها أو التحكّم في مسارها، حركة مدفوعة بدافعين في ما يبدو لنا، دافع إيروسيّ ــ إذ الشهوة هي "البنت البكر" لإيروس ــ يجعل الشعر مضمّخا برغائب الذات ولهفتها اللّامتناهية على امتلاك اللذّة، لذّة اللغة عند الشاعر، ودافع نفسانيّ ــ فرويدي بما أنّ الشهوة إحساس قاهر بالحاجة إلى ملء الفراغ وسدّ النّقص، وهو ما تنهض به القصيدة في ما يبدو. وما لم يكن الشعر شوقا طبيعيّا إلى امتلاك العالم المنفلت ومحاولة استعادته باللغة فسيبقى نوعا من الصّنعة اللغويّة، أو من ممارسة وظيفة لغويّة "حكوميّة" لا تعني الشعر في شيء. ولعلّه في ظلّ هذا المفهوم للشعر القائم على "الشهوة" أو على ما سمّيناه "الشوق الطبيعي" يتحرّك منير مزيد بعيدا من شروط القصيدة الكلاسيكيّة، قريبا من نفسه، فيختار "قصيدة النثر" شكلا و"الومضة" حيّزا أو فضاء شعريّا. وكثيرة هي المواطن التي تكلّم فيها الشاعر على "كلامه" أو شعره، وحاول رسم تصوّر للفعل الشعري كما يراه ويتمثّله وكأنّه يبني بذلك عَقْده القرائي مع نفسه أوّلا ومع جمهوره ثانيا (القصائد: 8، ص11 ــ 11، ص 14 ــ 44، ص 48 ــ 49، ص 52)، وقد يأتي هذا الشعر على الشعر في شكل "بيان شعري"، تحدّد فيه الوظائف وترتسم المقاصد ويحلم فيه الشاعر بأن يبسط سلطان شعره على جمهور يدّعي أنّه قد اختاره سلفا:
"... تولد قصائدي
لتكون تبغا للثوّار
كافيارا للفقراء
ورحيقا للعشّاق..." (ق 11، ص 14)
ولا يبقى لنا هنا إلاّ الحلم مع مزيد بأن يكون الشعر على لائحة الفقراء في الوطن العربي خاصّة.
وفي سياق البحث المحموم عن امتلاك معنى الشعر أو الاقتراب من جوهره تلتفت الذات المبدعة إلى عمليّة الخلق ذاتها أو لحظة إنشاء النص الشعري فتشبّهها بالخلق الإلهي (ق 44، ص 48)، وهي محاكاة متداولة إذ طالما اعتبر الشعراء أنّ خلق القصيدة نسخة أخرى من خلق الكون، إلاّ أنّ منير مزيد يعطي لخلقه وجها آخر يخلّصه من الصورة النّمطيّة، ويعطي لمعنى الشعر عنده قيمة دلالية مضافة من شأنها أن تفجأ القارئ وتحقّق للقصيدة طاقتها الدّلاليّة والتّأثيريّة، فإذا ما كان الله ــ في القصيدة ــ يحيي أرضه بالمطر:
"مثلما مطر الله
يحيي قفر الأرض.."
فإنّ الشاعر ينبت قصيدته من "الوهج" و"القحط" أي من العدم. ولئن كان الأمر في هذا السياق لا يخلو من نوع من المطاولة الأدبيّة والتّصارع على فعل الخلق إلها لإله، إله الكون وإله الشّعر، فإنّه يحوي ــ في رأينا ــ ملمحا آخر من ملامح الذّاتية الأدبيّة عند منير مزيد قوامه أنّ الخلق الشعري ليس حركة رتيبة متوقّعة كما هي في الكون الطّبيعي "مطر فعشب، فمطر فعشب.." وإنّما هو حركة متجدّدة، فريدة من نوعها مع كلّ قصيدة، ولادة تحمل معها الدّهشة دائما وأبدا، نابعة من "شهوة" سحريّة إلى اختلاق كون جديد يُبعَث في القصيدة لأوّل مرّة، مختلف عن الكون القديم الذي نعرف.
وما دمنا نتحرّك ضمن مقولة "الذّات" في هذه القراءة فإنّ همّنا سيكون استجلاء طرائق الذات الشاعرة في استثمار رصيدها الفنّي لتنجز القصيدة، والكيفيات التي فاوضت بها ذاكرتها الفنية لتبني جمالية الخطاب الشعري وتملّكه قدرة الاستحواذ على انتباه المتلقّي وإعجابه.
الذاكرة النصّية في "فصل من إنجيل الشعر":
لا نقصد بالذاكرة النصية كمّية النصوص التي يحويها المبدع في ذاكرته ولا رصيده ممّا قرأ وسمع ورأى وأنتج أو تلقّى، وإنّما نقصد بها طرائق المبدع في المجاورة بين تلك النصوص ومدى سلطته عليها وكيفيّات استثمارها وهو ينشئ نصّه الجديد. وتبقى ظاهرة "استثمار" النصّ السابق أو "التناصّ" أو "هجرة" النصوص بعضها إلى بعض لبنة مهمّة في بناء فضاء النصّ والتّدليل على ذاتية ذلك الفضاء. وقد بدا لنا أنّ منير مزيد يتعامل مع الكمّ الهائل من النصوص المختلفة أجناسا وأزمنة ومع صنوف متعدّدة أخرى من التعبيرات الفنية كالرّسم (ق 47، ص 50)، والمنحوتات، والهندسة المعمارية (حركة الأسطر على بياض الصّفحة) بنوع من "الرّبى" الفنّي قائم على أشكال من الاحتيال المبدع في خلط النّصوص واختيار الكيمياء اللّازمة لتحويلها من وضعيتها الأولى الساكنة إلى وضعيتها الجديدة الحيّة، أي بعثها بعثا آخر مطبوعا هذه المرّة بطابع الذات الباعثة المحيية، إنّ الفنّ لعبة ماكرة قوامها ذكاء المبدع وتواطؤ المتلقّي، الأوّل يتحيّل والثاني تعجبه الحيلة فيسقط في فخّها، فخّ النصّ، وقد بدت لنا قصائد مزيد فخاخا فنّية يسهل الوقوع في سحرها، ميزتها قدرة الشاعر على مزج أطياف النصوص التي تستدعيها الذاكرة لحظة الإنشاء، ومدى تحكّمه في تعديل نبضها وإعادة تركيب موادّها لتصبح ملكا له وجزءا من خطّته اللّغويّة والتّأثيرية. وتحمل حركة النصوص داخل فضاء القصيدة في ديوان مزيد بعدا زمانيّا ــ فنّيا في آن، فقد يكون النصّ المستدعى حين اختلاق القصيدة نصّا ضاربا في عهود سحيقة مثل الأساطير، أو ما تلاها من عهود الأديان، أناجيل "أنا نفحة من روح الله" (ق 29، ص 32)، وقرآنا "تصعد إلى السماء ... راضية مرضيّة" (ق 12، ص 15)، وتتقاطع معها تجارب كبار الشعراء ما قدُم منهم وما حدُث كما سنبيّنه بعد حين. وقد يعطي مزْيد قصيدته شكل سورة قرآنية "والكلمة وما يسطرون.." (ق 13، ص16)، أو ترنيمة توراتية "إلهي .. إلهي..
لما شبقتني..ما شبقتني
في حبّك"
وأحيانا تتّخذ القصيدة قالب وصيّة "أوصي.. إن متّ" (ق 24، ص 27) أو خطبة" أيّها - اسمعوا " (ق 61، ص 64)، أو خرافة "وأن أطبع آخر قبلة – على شفة القصيدة.."(ق 36ن ص 39). وليس توقّفنا عند الثراء الأجناسي في "فصل من إنجيل الشّعر" من باب التضخيم الكمّي لثقافة الشاعر فمن البديهي أن تكون ثقافة الشاعر والمبدع عموما واسعة سعة الكون، وإنّما نتحدّث عنه باعتباره أداة من أدوات الذّات في تصريف الفعل الشعري وعلامة من علامات انفتاحها على العالم وعلى الآخر.
وقد بدا لنا أنّ شعر مزيد ترقد فيه آلاف الأصوات، وأنّه شعر تائق فعلا إلى الكونيّة، فهو يجوس في النّصوص العالميّة الكبرى سواء منها الأسطوريّة أو الدّينية أو الأدبية، ولكنّه شعر حامل أيضا لإرث أمّة ومساحة هويّة وشرط انتماء، الانتماء إلى الثقافة العربية حيث تتصاقب أصوات الشعراء العرب القدامى والمحدثين في قصائد مزيد، تصاقب يؤكّد أنّنا أمام ذاكرة شعرية لا ينقصها الانتماء ولا غنى الموروث، وهي ليست ــ في الشعر على الأقلّ ــ "حبّة رمل عمياء" (ق 5، ص 7)، فقد تنفتح القصيدة بوقفة طلليّة صميمة وكأنّ الذات المتلفّظة تتلبّس تلبّسا بفضاءات الشعر الجاهلي، وكأنّها لم تفارقه رغم تعاقب القرون والعصور " ما الذي أوحت به تلك الطّلول" (ق 37، ص 40)، لا نكاد نصدّق أنّنا أمام قصيدة نثريّة من القرن الواحد والعشرين! يعيد الشاعر امتلاك ذاكرته الشعرية وعيا منه بأنّها ذاكرة مشتركة مع قارئه العربي تحديدا، وبأنّها ما تزال حاوية لطاقتها التأثيرية. وذاكرة الشاعر ليست ذاكرة منغلقة ولا مكتفية بذاتها، وإنّما هي ذاكرة متفاعلة حيويّة، سرعان ما تخرج من صدى نصّها الأوّل "الطّلل" إلى مجموعة أخرى من النّصوص الأصداء تجعلها الذات الشاعرة تتماسّ وتتقاطع وتتجاور، فتحضر قصّة الخلق "حين يتصدّع جدار الجسد الطّيني"، والأسطورة "تحتفل بأزاهير اليوم الأوّل للخلود" لتنبني القصيدة على نوع ممّا سمّيناه "كيمياء" نصية تنتج بها دلالتها الخاصّة.
وقد لا تتجاوز أصداء الشعر العربي القديم في بعض القصائد لفظا واحدا، ولكنّه لفظ ضارب بقوّة في الذاكرة الجمعيّة لأنّه يحيل إلى نصوص غُرَرٍ في المدوّنة الشعريّة القديمة، ففي قول الشاعر "وأريحكم من قلقي" (ق 17، ص 20) التفاتة معجميّة إلى قلق الشعر كما رسمه المتنبّي في بيته الأيقونة (أيقونة الشعراء):
عَلى قَلَقٍ كأنَّ الّريحَ تحتِي – أُوجِّهُهَا جَنوبا أوْ شمَالاَ
وكذلك يحمل قوله "أخذته الحيرة مشتاقا" (ق47، ص 51) تقاطعا مع قصيدتين سارتا على ألسنة الناس ولا تفتآن، أولاهما رائعة ابن زيدون بمطلعها الشّهير:
إِنِّي ذَكرْتُكِ بالزّهْراءِ مُشْتاقاَ– والأُفْقُ طَلْقٌ ومَرْأى الأرْضِ قَدْ رَاقَا
والثانية رائية أبي فراس الحمداني وبالتحديد بيتها الثاني الحاوي للفظ الاشتياق:
بَلَى، أنا مُشْتَاقٌ وعِنْديَ لَوْعَةٌ – ولكنَّ مِثْلي لاَ يُذاعُ لهُ سِرُّ
وحتى لا نسقط في ما يمكن أن يسمّى بالمبالغة في التّأويل وتقويل النصّ ما لا يقول فإنّنا نذهب إلى أنّ الذات المنشئة قد لا تكون أحيانا حادّة الوعي بالنصّ الأصل وهي تقدّ نصّها، وإنّما قد يردّ الأمر إلى حركة الذاكرة اللاّواعية، فتمرق الكلمة من القصيدة الأولى إلى القصيدة الثانية دون رقابة أو دون وعي، ولكنّها لا تمرّ بمثل هذه التّلقائيّة أمام عين النّاقد!
وفي مواضع أخرى يكون صدى الصوت المدعوّ إلى فضاء القصيدة واضحا وغالبا وصريحا، لا يمكن للقارئ ــ ومن قبله الشاعر ــ إلاّ أن ينتبه إليه دون عناء كبير، "واحسرتاه..!" يقول مزيد في إحدى قصائده (ق 42، ص 45)، وهل يمكن أن نقف أمام هذا السّطر دون أن نستدعي إلى البال قصيدة "غريب على الخليج" للسياب، "واحسرتاه، فلن أعود إلى العراق"، ينطبق الصوت على الصوت، وتتحسّر الذات الآنية كما تحسّرت تلك الذات الأولى فينطبق الألم على الألم، وتوقظ الغربةُ الغربةَ.
وفي غالب الأحيان تكون الذّات أكثر تحرّرا من النصّ المرجع وأشدّ احتفاء بنصّها الخاصّ، بل تشاكس نصّها المرجع وتتجاوزه، مثلما جاء في القصيدة (55)، حيث التفت الشاعر التفاتة مباشرة إلى "بودلير": "أسمع بودلير يقول.."، وتمّت المفاوضة بينهما بالتناقض والنفي، بأن اقترح اللاّحق على السّابق عالما جديدا مختلفا "ليس العالم مملاّ وصغيرا". وتتولّد عن ملاعبة الذات لنصوصها المرجع محاورة فنية بين صاحب الألواح و"بودلير"، هي في ذات الآن محاورة حضارية فكرية ما بين الشرق والغرب، لتحمل القصيدة داخل إهابها الفنّي التخييلي مقصدا واقعيّا تاريخيّا هو بحث منير مزيد عن احتواء العالم ــ رغم اختلافاته ومساحاته الشاسعة الفاصلة ــ في فضاء قصيدته، وصهر التجربة الإنسانية على تعدّدها وتناقضها في لحظة لقاء كونيّة بين الأنا والآخر.
ويمكن القول إنّ لعبة التقاطع النصية أو حركة التلوين النصّي في "فصل من إنجيل الشعر" قد بلغت شأوا من الإتقان مع النصوص الدينية باختلاف مشاربها وتنويعاتها، وقد مثّلت بالفعل أداة مهمّة من أدوات بناء فضاءات الشعر في الديوان. ولا مجال للتوقّف عند كلّ مواطن التقاطع بين قصائد الدّيوان والنصوص الدينيّة فهي من الشيوع بمكان ونكتفي بسوق نموذج أو اثنين. فقد تنفتح القصيدة على شاكلة سورة "وإذ أوحي إليّ" (ق 48، ص51 )، وينفتح معها أفق انتظار مخصوص لدى المتلقّي قوامه أنّ الأنا المتكلّم في الخطاب يتشكّل في صورة "نبيّ"، هو أفق انتظار "متوقّع" و"منتظر"، ولكن سرعان ما سينهار هذا الأفق الأوّل فالوحي المذكور في القصيدة سيقود "نبيّ الشعر" إلى بساتين "الكرم الشعري" بدل عوالم الغيب كما كان متوقّعا ، ونبيّ القصيدة لن يرى وجه ربّه وإنّما وجه قصائده "أثمارا تليق بالنبوءة". وقد أحسن منير مزيد هنا بناء حركة التقاطع بين النصّ الديني والنصّ الأسطوري، بين صورة "النبيّ" وصورة "بوخوس" إله الخمرة. وضمن نقطة التقاطع هذه بالإمكان أيضا أن تصعد إلينا روائح شعر أبي نواس وهو يتوسّط سحر الخمرة وسحر القصيدة، وإذا في هذا الحيّز الشعري الضيّق، المومض في ذاكرة الزّمن بسرعة متناهية يلتقي النص الديني والأسطوري والشعري في إهاب شفيف من الرّمزية على ملك شاعر حديث يختلق عوالمه الخاصّة دون أن يقطع صلته بالموروث الروحي والإبداعي الإنساني. إنّه تلوين زمنيّ لا نملك أمامه إلاّ أن نعترف بقدرة الشاعر على مزج ألوانه وإتقان حركته اللغويّة الفذّة.
وأحيانا تصل هذه الحركة اللغويّة مستوى من الإتقان يطبع القصيدة بطابع مخصوص ويحقّق للتجربة الشعرية تفرّدها وعمقها، حين يصبح فضاء القصيدة "جوقة" من الأصوات – النصوص (ق 40، ص 43) يمتزج فيها الترتيل الصوفي بابتهالات "نرسيس" أمام ذاته يعبدها "دعيني أحدّق في مرآة الوجود"، ولكن سرعان ما تتسلّط الذات على هذه الأصوات، وتنزاح نحو صوت جديد هو صوتها، فإذا ما كان "نرسيس" يرى وجهه في "مرآة الوجود" فإنّ الشاعر ما يزال في طور البحث، بذلك تجاوز القصيدة الأسطورة، بل توسّع من آفاقها فتنفتح على التّجربة الصوفية الباحثة دائما عن الذات الأخرى "وجهي غير المرئي"، لتنتهي القصيدة في أجواء من الكشف والحلول حيث "الأسرّة المجلّلة" و"السندس الأخضر". تتلفّف الذات في هذه القصيدة وفي غيرها من قصائد الديوان بالخطاب الديني، منه تمتح صورها الشعرية، وبه تبني جماليتها ومن خلاله تستمدّ هويّتها الفنية.
لعبة الأقنعة:
هذا التقاطع الكيميائي بين الأصوات ــ النصوص في فضاء القصيدة وداخل نظام التلفّظ يستمدّ خصيصته من لعبة فنية ماكرة أخرى، تعوّل فيها الذات على تنويع الأقنعة وتبادلها مع القارئ، وهي أقنعة تستمدّ قدرتها على التأثير من مدى اشتراك كلّ من المتلفّظ والمتلفّظ له في مساحاتها الدّلالية ومن قدرتها التأثيرية في كلّ منهما. ونحن لن نطيل في هذا الباب لأنّه شاسع ومتشعّب ويستحقّ دراسة مفردة، ولكنّنا نجمل الأمر في بعض الأقنعة التي لفتت انتباهنا أكثر من غيرها في "الفصل الأوّل من إنجيل الشعر"، أوّلها الأقنعة الأسطورية، ونتوضّح من خلال شيوعها الكثيف في ملفوظ الشاعر أنّها تحاصر الفعل الشعري عند مزْيد، وتشرف بقوّة على لحظاته الإنشائية وكأنّها طقس من طقوس الكتابة عنده، ، فما أكثر القصائد التي استضاءت بنار "برومثيوس"، أو احتفت بلحظة البعث مع "أدونيس" و"عشتار"، أو ارتحلت في خمرة الشعر مع "بوخوس"، أو سقطت في عشق الذات مثل "نرسيس" أو عشق الجسد مع "إيروس" وغيرها من الرّموز الكثيرة الدالّة على امتلاك مدهش لعوالم الأساطير وإيمان راسخ لدى الشاعر بدورها في بناء الدّلالة وتأثيث فضاءات القصيدة، حتى كدنا نتساءل أحيانا مَن منهما يمتلك الآخر ويتحكّم فيه.
إلى جانب الأساطير كان قناع "النبيّ" أكثر الأقنعة انتشارا في الدّيوان، ومنذ القديم وضع الشعراء أنفسهم موضع الأنبياء وشاركوهم الوحي والنبوّة وتقاسموا معهم ملكوت الغيب، وفي الثقافة العربية القديمة كان الشاعر صنو "السّاحر" و"الجانّ" أو أخا "الشيطان"، وقد تناقلت الأخبار "توابع" الشعراء و"زوابعهم". ويدرك م. مزيد أنّ القناع الدّيني قناع كونيّ، وأنّه لغة عالميّة (موسى، المسيح، يوسف، محمد..) بإمكانها أن تخترق البنى الذهنية والنفسية العميقة للجمهور المتلقّي، ولكنّها قبل ذلك هي أقنعة أو رموز لها سلطة فعليّة على الذات الشاعرة، مخترقة لوعيها السطحي والعميق في الآن ذاته.
وقد يتّخذ القناع شكل الرمز السّومري "جلجامش"، الحامل لخلود الكلمة وانتصارها على الفناء، ومثله يواجه منير مزيد تيمة الموت بالكتابة (ق 58، ص 61)، أو الرّمز الأسطوري القديم "القمر" (ق 62، ص 65)، والقمر هو "تانيت" إلهة الضّوء في الحضارة القرطاجنّية القديمة و"معبود" العرب منذ العهود السّحيقة، وهو قناع لا يخلو من جمالية رغم بساطة تركيبه، مفاده أنّ الشعراء يذهبون " إن كان ولابدّ من الموت " ويبقى شعرهم "لا تذهب بإكليله الفضّي.." إن رضي عنهم الإله ــ القارئ!
وتختلق الذات قناعها أحيانا من التاريخ "أحرقت السّفن" ( ق 54، ص 57)، فتتخفّى الذات المنشئة في الذات التاريخية بما أنّ حريق السفن في القصيدة يذكّر بسفن "طارق بن زياد"، يترك أرضه إلى أرض أخرى من أجل قضيّته، أليست هذه حال الشاعر الفلسطيني منير مزْيد؟ على أنّ رجل التاريخ يحرق سفنه ليضع قدميه على الأرض في حين يختار الشاعر أن يسير على الماء "وفي بحرها ألقيت نفسي" مثل موسى أو مثل كولمبوس.
ولكن هل كانت القصائد في "فصل من إنجيل الشعر" فضاء لغويّا محضا، منذورا للرّمز والإيحاء والغموض وكثافة الأقنعة؟ شعرا للشعر كما يحلو لبعض المهتمّين بشعر مزيد أن يقولوا؟ وهل كانت الأقنعة دوما بهذه الكثافة التي تبقيها معلّقة بعالم الوهم وحده؟
مهما تكن محاولة الذات المبدعة ــ وفي الشعر خاصّة ــ أن تكثّف من أقنعتها اللغويّة وأن توغل في التخييل والتّرميز فإنّها تبقى ذاتا اجتماعية، حاملة لهموم واهتمامات غير لغويّة، تنكشف عنها القصيدة وتتبادل بها الإشارة مع الواقع التاريخيّ الذي أنشأها. وفي أكثر من مناسبة يشفّ القناع في القصيدة حتى لتنجلي الذات الشاعرة تماما وتظهر للعيان، فإذا بالمتكلّم داخل القصيدة هو منير مزيد، الشاعر الفلسطيني المفجوع في وطنه، والإنسان الواعي وعيا حادّا بضياع الوطن في غياهب الظّلمة أو الظّلم "أما آن لهذا التنّين أن يتقيّأ الشمس؟" (ق 3، ص 5)، وقد يتولّد عن هذا الوعي الحادّ بضياع فلسطين نفَس رثائيّ، تقرّ فيه الذات بضياعها هي هذه المرّة "قدري أن أحيا حبّة رمل عمياء" (ق 5، ص8)، ولا أدلّ ــ في رأينا ــ على خاصّيات الكائن الفلسطيني من "حبّة رمل"، فهي في ذات الآن منتهى الهشاشة بالنّظر إلى حجمها وانفصالها عن الصّخرة الأمّ، ولكنّها أيضا منتهى المقاومة باعتبارها "الجزء لا يتجزّأ" فلا تنكسر ولا تنسحق.
ضمن هذه الحركة بين كثافة القناع وشفافيته نلتقي بمواقف الشاعر المباشرة من الثقافة العربية "ما جئت إلاّ لأحرّر عصافير الشعر.." (ق 8، ص 11)، ومن المرأة "ملعونة أنت.."(ق 35، ص 35). وقد يشفّ القناع أحيانا حتى لا يبقى غير الشاعر الإنسان، الخائف من الموت "إلهي.. إلهي
لا تجعل خوفي من الموت
يغلبني"، (ق 63، ص66)، المستسلم لحتميّته "فلتكن مشيئتك"، لتصبح القصيدة لحظة صادقة من الضعف الإنساني لم يستطع الشاعر ــ أو لم يرد! ــ أن يغلّفها بالرّمز فجاءت الصّورة متوقّعة لا مفاجأة فيها فـ"الموت كأس ونحن شاربوه"، وكأنّ الأرجحة بين عالم الواقع وعالم الخيال لم تستطع أن تقتلع الشاعر من عالمه الأوّل اقتلاعا تامّا.
وقد يرفع الشاعر قناعه ويواجه القارئ مواجهة مباشرة "مفتاح بيتي في القدس" (ق21، ص24). ورغم أنّه السطر الوحيد الذي أعلن فيه الشاعر اسم الوطن بلا قناع فإنّه سيعطي المعنى لكلّ الأقنعة الأخرى، إذ سيكون القارئ مطالبا باستقبال شعر منير مزيد باعتباره شعر القضيّة وشعر الرّؤية إلى جانب كونه شعر الفنّ وشعر الرّؤيا.
يستحقّ "فصل من إنجيل الشعر" أن يُنظر إليه من أكثر من زاوية، وأن يكون محلّ قراءات أخرى مختلفة، ولن ندّعي أنّنا قلنا فيه القول الفصل بهذه القراءة. ولئن كان من حقّ الذات المنشئة اختيار الأشكال اللغويّة التي رأتها صالحة لبناء خطّة الخطاب وتحميله مقاصدها في هذا الدّيوان فإنّه من حقّ القارئ أيضا اختيار العلامات التي لفتت انتباهه أكثر من أخرى، ومارست عليه نوعا من التسلّط الفنّي وجعلته يعمل على تفكيكها وإعادة تركيبها، وهو ما ندّعي أنّنا قمنا به في هذا المقال.
ولابدّ أنّه توجد إمكانيات أخرى للنّظر في تشكّل فضاء القصيدة عند منير مزيد، قد ننهض بها في عمل قادم أو ينهض بها غيرنا من النقاد.