تُذَكِّرُنا المقولة المأثورة: " بقاءُ الحالِ من المُحال " بإحدى البديهيَّات المتَّصِلة بآليَّة وميكانزيم الحركة والتَّحوُّل الَّذي يطبع نظام الحياة بما هو عام، لكنَّها تُذَكِّرُنا في الوقت نفسه - وربَّما على نحوٍ استدراكي - بما يُحاول أنْ يُنْجِزَهُ النَّشاط السِّياسي بشكلٍ عام والنَّشاط الدُّبلوماسي على وجه الخصوص للدُّول وللحكومات من أهداف تستدعي إبقاء الحال على ما هو عليه إذا كان ذلك يتماشى مع السِّياسات العامَّة أو يخدم الأهداف الاستراتيجيَّة بعيدة المدى لتلك الحكومات والدُّول. وعلى قاعدةِ أنَّ أفضل الخيارات المتَّصلة بالتَّعامل مع مفاعيل التَّغيير تكمن في ابتداع واستحداث المفاهيم النَّظريَّة والوسائل والسُّبل العمليَّة الَّتي تكفلُ الحفاظ على الأوضاع القائمة كما هي دون تغيير يمسُّ جوهرها بشكلٍ أساسيّ وإنْ بدَتْ متغيِّرة من حيث الشَّكل والمظهر وبما يتماشى مع ضروراتِ المرونة والتكيُّف وامتصاص ردود الأفعال الَّتي تطبع السِّياسات بطابع المراوغة والتَّحايل على مفاعيل قوانين التَّغيير الصَّارمة على نحوٍ ما.
منذ أنْ شَرَعَتْ إسرائيل باحتلالها للأراضي الفلسطينيَّة عام 1967 واستكملت وأَحكَمَتْ سيطرتها عليها فيما تلا ذلك من سنواتٍ وهي تحاول ذلك بشتَّى الوسائل العسكريَّة والأمنيَّة والسياسيَّة والإجرائيَّة مُستَخدِمَةً ما يُسمَّى بقانون الطوارئ الإنجليزي لعام 1947 - والَّذي كان سارياً إبَّان فترة الانتداب البريطاني على فلسطين حتًّى نهاية أربعينيَّات القرن المُنْصَرِم؛ وبما يُعطي للأوامر العسكريَّة صفة القانون – وقد كانت كل تلك الإجراءَات تستهدفُ إبقاء طابع وواقع الرُّكود كعلامة جوهريَّة فارقة مقبولة دوليَّاً لواقع القضيَّة والحالة الفلسطينيَّة الموزَّعة بين أوضاع اللُّجوء والاحتلال والشَّتات.
كان موضوع ومفهوم إدارة المناطق المحتلة والتَّعامل مع التَّطلُّعات السِّياسيَّة لسكان المناطق - بحسب التعبير الإسرائيلي الذي كان سائداً منذ الخامس من حزيران 67 – موضوعاً مستمرَّاً للنقاش داخل الأوساط السِّياسية والأمنيَّة والأكاديميَّة الإسرائيليَّة، وموضوعاً من مواضيع النَّشاط الدُّبلوماسي الإسرائيلي بطبيعة الحال، ويشرح ذلك باستفاضة كتاب " إسرائيل في الخمسين.. خمسة عقود من الكفاح في سبيل السَّلام " لـ " موشيه رفيف " سفير إسرائيل في بريطانيا لمدَّة تراح العقد من الزَّمان وأحد روَّاد الدبلوماسيَّة الإسرائيليَّة إبَّان نهاية السِّتينات وحتَّى منتصف عقد التِّسعينات من القرن الماضي. كما يشرح ذلك العديد من الوثائق والمنشورات والأدبيات الإسرائيليَّة، على نحوٍ يوحي دوماً بمقدارٍ كبيرٍ من أُحاديَّة الرؤية ويؤكِّدُ باضطِّراد على الرِّواية الإسرائيليَّة حول مجريات الصِّراع، ويستهدف إبقاء الحالة الفلسطينيَّة في دائرة الرُّكود على المستويات الجوهريَّة وكأنَّ ذلك يبدو كاعتقالٍ لمستقبل الشَّعب الفلسطيني بين جدران القوَّة الإسرائيليَّة والتَّواطؤ الدَّولي المُعيب مع إسرائيل.
عِوَضاً عمَّا تمَّ من جهدٍ إسرائيلي في سبيل تحقيق ذلك وتأصيله على قاعدة الرِّواية الإسرائيليَّة وامتداداً لها، وعجز عربي في مواجهة ذلك كلِّه، فقد انتقلَ إبقاء حالة الرُّكود فيما يتصل بالتعامل الجدِّي مع حقوق الشَّعب الفلسطيني الأساسيَّة والسِّياديَّة إسرائيليَّاً ودوليَّاً وعربيَّاً – ومن ثمَّ رسميَّاً فلسطينيا في مرحلة ما بعد توقيع إعلان المبادئ في أسلو – إلى حالة الرُّكود على قاعدة البروتوكول بشهادةٍ دوليَّة وإقليميَّة، والَّذي ينظم العلاقة الآن بين السلطة الفلسطينيَّة وإسرائيل.
لقد كان من المُفتَرَض أنَّ انبثاق الشَّخصيَّة الوطنيَّة الفلسطينيَّة، وتأطيرها ضمن مؤسَّسات منظمة التَّحرير – التي حظيَتْ باعترافٍ دوليٍّ واسع – وتواتر اتِّخاذ منظمة التحرير صفة التَّمثيل لعموم الشَّعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده من منظورٍ دوليٍّ متزايد؛ سيمثِّلُ جواباً استراتيجيَّاً على المحاولات الإسرائيليَّة لإبقاء القضية الفلسطينيَّة في حالة ركود ومراوحة في المكان، ولقد تحقَّقَ ذلك إلى حدٍّ بعيد واقعيَّاً ضمن منهجيَّة لمْ تكن خاضعة لما يفرضه واقع ومنهجيَّة البروتوكولات الموقَّعة فيما بعد، بحيث استثمرت إسرائيل مفاعيل تلك البروتوكولات والمفاهيم المتَّصلة بها في إدامة حالة الرُّكود والمراوحة فيما يتعلَّق بحقوق الشَّعب الفلسطيني الأساسيَّة، وحقِّه في نَيْلِها غير مجتزأة ولا مُجزَّأة. فعلى هامش البروتوكول تمَّ استحداث مفاهيم وعناوين للحالة الفلسطينيَّة – بدَتْ طارئة مؤقَّتة لكنَّها أصبحتْ أصليَّة دائمة - كمفهوم المرحلة الانتقالية ومفاوضات الوضع الدَّائم، وإجراءَات بناء الثِّقة، والبدء بالأسهل، وتأجيل القضايا الصَّعبة، والأفكار الخلاَّقة وخرائط الطُّرق – بل قُلْ متاهات الطُّرق – فيما واصلت إسرائيل فرض الوقائع على أرضِ الواقع !!.
لا شك أنَّ الاتفاقات والتَّفاهمات المُبرمة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي – والَّتي من المُفتَرَض أنَّها فقدت مفعولها زمنيَّاً وظرفيَّاً - قد نُظِرَ إليهما من زاويتين مُختَلِفَتَيْن فلسطينيَّاً وإسرائيلياً، فالجانب الفلسطيني قد نظرَ إليها كمدخلٍ لنيل حقوقه الكاملة ولو بعدَ حين وعلى مراحل متصلة مؤصَّلة بتعهداتٍ دوليَّة، فيما رأتها إسرائيل من زاوية ضروراتها الأمنيَّة، واتَّخذت مِمَّا اعتراها من نواقص وإبهامٍ ونواقض مبرراً لصياغتها وفق جوهرٍ أمني ليس له علاقة بالأهداف الفلسطينيَّة من وراء تلك الاتفاقات. بل إنَّ إسرائيل اتَّخذت من تلك البروتوكولات والأوضاع الإجرائيَّة وشبه القانونيَّة النَّاشئة بموجبها مبرراً ووسيلةً في آنٍ معاً لإبقاء حالة الرُّكود في الحالة الفلسطينيَّة بل وتأصيلها وفي مواصلة الاعتقال الجماعي لحقوق ومستقبل الشَّعب الفلسطيني !!.