الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

أسامينا

2016-03-29 10:34:21 AM
أسامينا

 

بقلم: إسراء كلش

تحاول اللغة أن تدبّر نفسها مع مشاعرنا وحاجاتنا، تتطور باستمرار، تتبدّل وتتغيّر دلالات الكلمات، تحمل اللفظة الواحدة أكثر من معنى، والشيء الواحد أكثر من اسم، يتلهّف الآباء على اسم يحلمون لو يُعدي أبناءهم بشيء، لو يفيدهم في موقف ما أو حادثة عارضة، يحلم الآباء بأسماء أبنائهم، و"أسامينا شو تعبوا أهالينا تـ لاقوها.."

 

أتساءل: بماذا فكرّ والدا الشهيدة رهام دوابشة رحمها الله عندما أطلقا عليها اسمها الناعم؟ هل فكّرا أنّه نعمة؟ أنّ المطر مظهر جميل في الطبيعة؟ أنّ المطر القليل الدائم خير من الكثير المنقطع؟ ربما للزرع أو للفقراء الذين لا يملكون سكناً مناسباً للمطر الجارف؟ أو ربّما تنبآ من قبل أن ابنتهما رهام ستصبح غيمة ناعمة في صفوف الأطفال، تعطي بلا توقُّف درس رياضيات لطيف نسبياً؟ سأكون سعيدة لو أنّ معلمة رياضيات اسمها رهام علّمتني الرياضيات في طفولتي، أو أنني قابلتُ زميلة بهذا الاسم.

 

أفكّر وأتأمل ما أخشى وأكره، كيف كانت تفاصيل المحرقة البدائية تلك؟ سؤالاً ساذجاً مرعباً: بمَ شعرت؟ وأحدّث نفسي أُمّاً: بالتأكيد كانت تفكّر بطفليها وهي تعاني أشدّ الألم الذي خلقه الله، فأغلق النوافذ وأتأكد من إقفال البيت جيّداً، وأذهب إلى عملي بوجه جديد، وأحفظ ملامح طالباتي، ترى: هل تذكرتْ رهام إحدى طالباتي أو زميلاتها أو غرفة صفّها أو الرقم الموجود في أسفل قسيمة راتبها أو السؤال الأخير في درس التفاضل والتكامل أو آخر درس سواقة أخذته في تلك اللحظة؟ هل فكّرت لو أنّ زوجها لم يتشاجر مع الحداد (ليصفّح) بيتهم أكثر، ولو أنّ والدتها عزمتها على أكلة جبن مع بطيخ بارد في ذاك الحر التموزي الملتهب تلك الليلة؟ هل فكرّت باسمها؟ هي لم تفكر بكلّ ذاك، لأنّ السماء كانت غاضبة وقتها، فلم تحضر معها غيمة رهماء، لتبرّد نار رهام.

 

يأخذني التأمّل، "أسامينا شو تعبوا أهالينا.."، أفكّر في الأسماء والأفعال والصفات، أفكر وأُجهد نفسي في التفكير، ثمّ أقول: رحمها الله ومَن معها.

 

تمر الأيام بدقّة إبر الخياطة ووخزاتها، الأحداث السياسية متسارعة، وردود فعل على الأحداث لا سيما مجزرة عائلة دوابشة، ويأتي بعد أقل من سنة إضراب المعلمين الفلسطينيين في القطاع الحكومي الذي أعمل فيه، أتابع الأخبار وأتفاعل معها، أحسّ بمشاعر مثبطة على الأغلب، أتكاثف مع زميلاتي وزملائي، أكتب اسم (رهام) في الصفحة الإلكترونية، أذكّر زملائي بالشهيدة الزميلة أذكّر العالم بها، نحن معلمون وشهداء، أعود للحملقة في الأسماء، أصبحت لديّ عقدة من الأسماء! ويأتي ما يدهشني، فوز زميلتنا حنان الحروب بجائزة نوبل في التعليم، زميلة لنا في هذه الأرض المحروقة، هي أفضل معلمة على وجه عالمنا الخَرِب، كيف لا يمكنني أن أرقص لحظة إعلان النتائج؟ أدقّق في فرح زميلة لي لا أعرفها، من النكتة أن أقول إنني لا أعرف معظم زميلاتي وزملائي في المهنة، أنا لا أعرف سوى 50 من 40000 على وجه التقريب، أضحك، وأكتب على الصفحة الزرقاء الإلكترونية (زميلتي) تفوز بجائزة أفضل معلمة.

 

أقرأ دون ملل، وأشاهد حركاتها، لقد قدّمت الحروب نفسها كملعمة مناهضة للعنف، لا سيما بعد تعرضّ أطفالها لعنفٍ صهيوني أحدَث لديهم نوعاً من الفوبيا، اجتهدت كأم للسيطرة عليه، وعندما أعلنت انتصارها، وسّعت دائرته لتشمل أطفال فلسطين جميعهم، جاعلة المدرسة مؤسستها الأولى، (الحروب) مناهضة للحرب، (حنان) أحنّ معلمة على وجه الأرض، تبسُم في وجه الأطفال، تصرخ بحب: "لا للعنف، لا للقتل والدمار والضرب والتهديد"، تمارس حبّها لمهنتها (بحنان) مع الأطفال، وتفوز، أقصد، تنتصر.

 

إنها أسماؤنا التي تمثّلنا أحياناً ولا تسعفنا في أخرى، أكتب بثقة على طرف كتابي وأنا أراقب طالباتي اللواتي يكتبن ما أمليته على السبورة بعد عودتنا لملء مقاعدنا في المدارس، وأتحمّس لمهنتي أكثر، وأنتمي لكلّ مَن ينتمون لها أكثر، أنتمي لهبة الشرفا، أول معلمة فلسطينية تعاني من متلازمة داون أو ما نطلق عليه (الطفل المنغولي)، (هبةُ) أهلها من الله وَهَبتْ كل طاقتها ومشاعرها لتعلّم أطفالاً تحسّ بهم أكثر وتتفهّم احتياجاتهم ونقاط ضعفهم وقوتهم أكثر منّا، أصغُر أمامها أنا التي أحاول الاجتهاد في التميّز في مهنتي، مهنتي التي أحاول تطوير نفسي فيها مرة، أو العمل في سواها نصف مرة، عندما يأخذني تعب ويأس مارق.

 

أنا التي تبحث دائماً عمّن/ا تنتمي له أكثر، تنتمي اليوم لمهنتها أكثر من قبل، مهنتها التي ضمّت في سجلّها المعاصر، أسماء جمعوا ما لا يطيقه الإنسان مِن ألم، وما لا يصله أيّ إنسان مِن إنجاز وما لا تسجله الأجهزة من طاقة، أنتمي لعملي ولجنسي وجنسيتي، ولاسمي المسافر في ليل قد ينتهي، أكثر.