تجليات
الحدث: المفكر العربي الراحل محمد عابد الجابري، رسم ذات يوم إطاراً عاماً للعلاقة بين العولمة والهوية الثقافية، يقول: "إن الثقافة هي المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم، عن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت والإنسان ومهامه وقدراته وحدوده، وما ينبغي أن يعمل وما لا ينبغي أن يأمل". ولكنه عندما كتب يُفصلُ فكرته، لم يكن يعلم أنه سيأتي يوم تختلط فيه كل المفاهيم والأفكار، فلا نكرر مقولتنا البلهاء، وهل يختلط الزيت بالماء؟
حالة من التخبط والارتباك الشديدان تعتري المشهد الثقافي الفلسطيني بكل أركانه، فبعد موجة الجدل غير المجدي حول الفيلم الحائر بين فلسطينيته وإسرائيليته، " فيلا توما"، ومحاولة بعض التائهين تبرير فعل التمويل الإسرائيلي الواضح والمباشر، تطل علينا مفاجأة جديدة اليوم، تؤكد أن المطربين الشابين "منال موسى وهيثم خلايلة" طلبا المساعدة من الإسرائيلي المتطرف المدعو "أيوب القرّا" نائب وزير إسرئيلي وعضو كنيست سابق، لمطالبة مجرم الحرب "بيبي نتنياهو" السماح لهما بالمشاركة في برنامج "اراب ايدول"، حسب أدعاء السيد القرَا، الذي نشر صورة لزيارتهما له في مكتبه لإنجاز المهمة.
في الحادثة الأولى التي تخص فيلم "فيلا توما"، رفض الناقد السينمائي السيد أمير أباظة " في رسالة خاصة وجهها لبعض أصدقائه الصحافيين كي يكتبوا على أساسها محاولة تبرير عرض الفيلم في مهرجان الاسكندرية للسينما"، رفض المساواة بين الجلاد والضحية، قائلاً: "أنْ نعامل عرض 1948 الذين حافظوا على وجود القضية الفلسطينية عندما تحملوا قهر الاحتلال من أجل الاستمرار في بلادهم وأرضهم، وبدلاً من أن نهاجم فيلماً علينا أن نشاهده، فإذا كانت به أية ملامح من تعاطف، أو شارك في صناعته أي عنصر بشري إسرائيلي، وقتها نتعامل مع الأمر، أما والفيلم يناقش قضية فلسطينية بأيدي سينمائيين فلسطينيين فالأمر جد مختلف".
هنا تكفي الإشارة للسيد أباظة، بأن المدعو "يارون شارف" مدير تصوير الفيلم (وكما جاء في استمارة طلب المشاركة المقدمة لسيادتكم)، هو إسرائيلي صاحب فكر صهيوني يدافع عن إجرام جيشه، العدو القاتل للطفولة الفلسطينية، ألم تنتبه لهذه وأنت رئيس أحد أهم المهرجانات السينمائية العربية؟ والقائل كما ذكر أعلاه: "إذا كانت به أية ملامح من تعاطف أو شارك في صناعته أي عنصر بشري إسرائيلي".
والفكرة هنا لا علاقة لها أساساً بمنْ أخرج أو صور، وإنما العلاقة، كل العلاقة، بسؤال الهوية التي من المفترض أن نعمل عليها جميعاً تمسكاً لا تفريطاً.. نعم علينا أن ندعم من حافظ وما زال على الوجود الفلسطني في الداخل المحتل، ولكن عبر الطرق الواضحة لا الملتبسة، لندرك مقصد مقولة الجابري: ما ينبغي أن يُعمل، وما لا ينبغي أن يؤمل".
وأما الحادثة الثانية المتعلقة بالمطربين الشابين، ومع تأكيدي الواضح والمباشر، بضرورة دعم كل صوت فلسطيني، يمثل معاناة شعبنا، كما مثلها من قبل "عمار حسن ومحمد عساف"، إلا أنه لا يمكن فهم لجوء الشابيين لسلك طريق الارتماء في الحض الإسرائيلي المحتل لكل المقدرات الفلسطينية بما فيها الإبداع والفن، ذلك الحض المزور للتاريخ والهوية.
نعم الأمر يبدو ملتبساً في الكثير من الحالات، ولكنه لا يلغي ضرورة إعمال العقل فيما يطرح أمامنا من ممارسات تعيد السؤال إلى أوله، والقضية إلى أصلها، دون أجابات وافية حتى اللحظة، والتي وإن طرحت فهي لا تَجُبُ ما قبلها، وإنما تدفعنا للقول جهاراً نهاراً، إنما ما نطرح ليس دفاعاً عن الفعل الإسرائيلي الفاضح، وإنما اتهاماً للخنوع العربي الواضح.