الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

مرايا السكين في الشعر الفلسطيني *بقلم: إسلام سمحان

2016-04-02 09:02:52 PM
مرايا السكين في الشعر الفلسطيني 
*بقلم: إسلام سمحان

يفسر محمد بن سيرين رؤية السكين قائلا: "إذا حلمت أنك تطعن شخصاً بسكين فإن هذا يعني تأسيس الشخصية، وأن عليك أن تناضل لتكريس إحساس أعلى بالحق".

كأن الشيخ الشهير في تفسيره الرؤيا يصف الحلم الفلسطيني بتحقيق حريته ونيل استقلاله عبر نضاله في وقتنا الراهن، وكيف تطور نضاله الأعزل الذي وجَد بالحجارة أسلحة متوفرة على الطرقات وفي الشوارع حتى وصل أخيرا للسكين؛ سكين المطبخ العادية التي جعلت من ثأره شفاء أكبر لغليله.

هذا على صعيد الأحلام، التي تتشابه في الواقع مع الحالة الفلسطينية فقط، إذ تصدّرت السكين خلال الفترة الماضية الأخبار العاجلة، وصار شكل الفدائي وهو يطعن المحتل حديث الساعة، حيث يضرب الشعب الفتي أمثلة خالدة في الرجولة والشجاعة والفداء؛ شاب أعزل يواجه جنودا مدججين بالسلاح وبالبزات الواقية والخوذ الفولاذية بسكين عادية.  

 

السكين والتراث

لم يحفل التراث بذكر السكين كثيرا وتكاد تخلو مكتبتنا العربية من تناول تلك الأداة الحادة التي طالما شكلت وسيلة لصيقة بخاصرة الانسان، يستخدمها للاستعانة بها في تأمين طعامه، أو في الدفاع بها عن نفسه، بالشكل الطبيعي.

وحتى في الأمثال الشعبية كانت تطل السكين بخجل، ساخرة أو محذرة، كما صار يتجنبها الأدباء والكتاب حاليا، من الذين صدقوا خدعة السلام والتعايش مع المحتل، وآمنوا بخيانات أصبحت فيما بعد وجهات نظر، انضوت تحتها ملفات عدة أهمها التطبيع الثقافي والرضوخ لواقع الأمر، فانحنت كتاباتهم بقدر ما انحنت هاماتهم، وتطرفوا باستبدال مصطلحات تميز بها الأدب المقاوم فأصبح الرصاص ريشا والدم غماما والحجارة ورودا.

وفي القرآن الكريم ذكرت السكين مرة واحدة فقط في سورة يوسف، بمشهد تراجيدي برر لمرأة  عزيز مصر مراودتها النبي يوسف عن نفسه في حادثة شهدت تقطيع أصابع المفتونات بالجمال، ونقرأ في الآية 31 من السورة نفسها: "فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ" .

 

في الأدب الفلسطيني

إلا أن تلك السكين العربية المهمشة ذهنيا وإبداعيا وجدت تمثيلات  كثيرة ومتعددة ومغايرة وأمكنة مختلفة في الأدب الفلسطيني، ذلك الأدب الذي ارتبط معظمه بطريق الفداء والتحرير ونيل الاستقلال، رغم ما تركته تلك السكين من  جرح بالغ في الشعر الفلسطيني؛ إذ كانت ترمز لوحشية الاحتلال وقسوته وعجرفته وظلمه، وأخذت تلك الأداة الحادة تدمي اللحم الغاضب وتذهب بعيدا في أجساد اللاجئين والمبعدين تارة والمقاومين والشهداء تارة أخرى.

يلتقط الشاعر الفلسطيني أنفاسه في مواجهة الاحتلال والغطرسة الإسرائيلية وهو يحفر في قصيدته الثورية ويمسك بالسكين، ليسقط رمزيتها عبر استخدامات قد تبدو للوهلة الأولى مباشرة في نصوص تقريرية منبرية حينا، وأكثر الأحيان مشغولة بالدهشة والإيحاء والترميز، كما سوف نسوق بعض الأمثلة الحية من قصائد لأبرز الشعراء الفلسطينيين كقصيدة معين بسيسو "بطاقة معايدة إلى بوشكين" والتي أخذ يسخر فيها من العالم حد الوجع مشبها الفاشية بالصهيونية:

هذا الطاووس الأصلع يكرهنا،

يكره يا تانيا عينيكِ

ويكره شعرك يا جاكلين 

باسم  القيصر ُيقتل بوشكين

باسم الثلج الأسود ُيقتل يسنين

باسم الثيران الخشبية

والمدهونة بالورنيش الأحمر،

فليسقط ماياكوفسكي

وليحي البريسم

سنبلة البارود ضفيرة

شعر فوق جبينك،

والقافية هي السكين.

 

وفي مقطع آخر من القصيدة نفسها نصل مع بسيسو إلى ذروة ألمه ووجعه الفلسطيني وهو يتعايش مع الطعنات الإسرائيلية اليومية:

الآن لتقرأ أشعارك يا بوشكين

ضمد جرحك بقصيدة شعر،

وانهض يا يسنين

أرفع يا ماياكوفسكي حاجب "تاتيانا" علما

ارفعه علما،

شعرك يا جاكلين شراعي

حنطني بالصمغ العالق بجناح البلبل،

واطعني بالسكين

نخبك يا بوشكين

نخبك يا يسنين

نخبك يا ماياكوفسكي

لترفرف في لحمي السكين

 

كذلك محمود درويش الذي كان يرتشف القبل من حد السكاكين بحسب كلامه وهو يصف الحياة القاسية تحت الاحتلال الذي يحول بينه وبين حبيبته اليهودية ريتا فيقول في  قصيدته "العصافير تموت في الجليل" :

كان لا يتعبني في الليل إلاّ صمتها

حين يمتدّ أمام الباب

كالشارع.. كالحيّ القديم

ليكن ما شئت_ يا ريتا_

يكون الصمت فأسا

أو براويز نجوم

أو مناخا لمخاض الشجرة..

إنني أرتشف القبلة

من حدّ السكاكين،

تعالي ننتمي للمجزره

سقطت كالورق الزائد

أسراب العصافير.

 

صيحة درويش

ومن ديوان "أحبك أو لا أحبك" يصرخ درويش في قصيدته "قتلوك في الوادي" متسائلا "ماذا يقول البرقُ للسكين"، كأن الصيحة يرجع صداها اليوم:

 

أهديك ذاكرتي على مرأى من الزمنِ

أهديك ذاكرتي

ماذا تقول النار في وطني

ماذا تقول النار؟

هل كنتِ عاشقتي

أم كنت عاصفةً على أوتار؟

وأنا غريب الدار في وطني

غريب الدار..

أهديك ذاكرتي على مرأى من الزمنِ

أهديك ذاكرتي

ماذا يقول البرقُ للسكّينْ

ماذا يقول البرقْ

هل كنت في حطّين

رمزاً لموت الشرقْ.

 

وكأغلب شعراء الأرض المحتلة دفع الاحتلال بحواجزه و"محاسيمه" الشاعر سميح القاسم بتشبيه دولة الكيان التي تقف عازلا بينه وبين بلدته بالسكين التي تضغط على عنقه في تصوير بليغ وبسيط في آن معا فيقول في قصيدة "انتظرني":

عنقي على السكين يا وطني

ولكني أقول لك: انتظرني

ويداي خلف الظهر يا وطني

مقيدتان

ولكني أغني

لك.. آه يا جرحي.. أغني

أنا لم أخنك.. فلا تخني

أنا لم أبعك.. فلا تبعني

وطن المزامير التعيسة والوجوه الضائعة

وطن الجذور الحاقدة

وطن العواصف والصواعق والليالي الباردة

وطن القرى الأطلال والدم والبكاء

أأشد أزرك

أم تراك تشد يا مغدور أزري؟

وطن الاكاذيب القديمة والروى والأنبياء

أأكون سرك

أم تراك تكون يا مغدور سري؟

وطن الحقائب والمطارات الغريبة والموانيء

وطن الغضب

وطن اللهب

يا من يبوس يديك عبر دموعهم مليون لاجيء

وطن المذلة والأسى والكبرياء

آمنت بالحب الذي يعطي

ويفنى في العطاء

ولذا

أقول لك انتظرني

عنقي على السكين، لكني أقول لك:

انتظرني.

 

طفلة أبو خالد

كما تستيقظ طفلة الشاعر خالد أبو خالد على بريق السكين وتداعياتها وهو يستحضر الكنعانيات، بنات البلاد فيقول في قصيدته "للسيدةِ الكنعانيةِ أرفعُ هذا النخب":

يا أيَّتها الكنعانيةُ

نخبكِ أرفعُ كأسي.. وقرنفلتي

نخبكِ أرفعُ جرحي للنجم 

وقلبي للهمَّ

وصدري لفريقِ الإعدامِ

وأشربُ من "عينِ السيلة " دمعاً

ونبيذاً كدمي

كالجرسِ الآتي من برجِ القدسِ

دمي

كيفَ وجدتِ نبيذي؟

- كأسٌ تكفي أتثاقلُ فوقَ سحابٍ كالقطنِ.. وأبكي

- استيقظتِ الطفلةُ نشوى ببريقِ السكينِ

الطفلةُ تذبحُ... أو ترقصْ

أدعوها للنومِ .. تنامُ على كتفي .. تستيقظُ

تفتحُ عينيها 

وترى الكأسَ الفارغةَ.. إلى النومِ تعودُ

وكفِّي تتحَسَّسُ حزنكِ.

 

سكين المناصرة

وبشكل مغاير لدلالات السكين في القصائد المذكورة، يخرج الشاعر الفلسطيني عز الدين مناصرة صاحب "جفرا" بقصيدة شعبية تشبه انتفاضة السكاكين الحالية، تلقائية وانسيابية وانتقامية يتوحد فيها الجرح الفلسطيني في الضفة وغزة فتيانا وفتيات كلهم يتساوون في التضحية والشجاعة والاستشهاد:

جفرتنا يــالهربـــع نزلت عالمديـنة

صارت تغني وتــقول يحيا الفلسطـيني

تحيا يا إبــن لـبـنان يا ذراعي اليمين

يا شريكي بدرب التحرير ضد الصـهيونية

هات سلاحك والحــقني فردك والســكين

تانزل عافلسـطـــين نعمل عمـــلية

وناخذ معنا الـــقنابل شغل بلاد الصين

ونهجم عاموشي دايان هجمة عربــية.

*- شاعر واعلامي فلسطيني مقيم في مسقط