"كلُ شوقٍ يَسكنُ باللقاءِ، لا يُعولُ عليه" جملةٌ صوفيةٌ لأحدِ أهمِ علاماتِ الصوفيين العرب، هو ابنُ عربي، ولكنها ليست مجردَ جملةٍ حزينةٍ ووحيدةٍ أو عابرة، خاصةً وهي تُطرحُ في مقدمة إحدى أهم الروايات العربية في السنواتِ العشر الماضية، إنما هي جملةٌ تُحيلنا حتماً لفكرةٍ أخرى في مكانٍ آخر، وكأني بالكاتبِ هنا يقذفُ بجمرِ السؤالِ على أحضانِ العلامةِ الجاحظ: "لِمَ كل عشقٍ يسمى حباً؟ وليس كلَ حبٍ يسمى عشقا؟
الجوابُ في هذه الحالةِ ليس شرطاً أن يكونَ جواباً مباشراً، قدر كونه جواباً مجازياً قد نلحظُهُ في تقاطعِ الرؤى، أو تشابهِ الخوفِ من الغدِ، ونحن نبدلُ الأمكنةَ في بلادنِا العربية، لا لشيءٍ إلا لضياعِ الحقيقةِ الممكنة.
الجملة، والجواب على حدٍ سواء، يطرحهما الكاتبُ والروائيُ السودانيُ، حمور زيادة في خاتمة روايته الأشهر "شوقُ الدرويش" وهو يقولُ في اقتراحٍ يَرتُقُ بعضَ الجراح:
ربما عرفتُ الآن، ما كنتُ لا أعرفهُ.. ربما أبررُ لنفسي تعبي وعطشي للنهاية. لكني لا أهتمُّ. لقد تعبت.
هي ساعاتٌ ويعلقونني على مشانقِهم، بيني وبين لقياكِ حبلُ مشنقة. لا تحزني، فإنما هو لقاءٌ لا فراقَ بعدهُ،
إنما هو لقاءٌ يسكنُ بعده الشوقُ... أنا آتٍ. أخيراً.
هو الآن أتى.. نعم أتى للمرةِ الأولى إلى بلادهِ الثانيةِ، فلسطين.. أتى مع زملائه ليضعوا حداً لكلِّ القولِ الملتبس، أين أنتم؟ وربما أين نحن، والقصدُ هم؟ وهذه الهم والـ نحن، من المفترضِ، صوتٌ واحدٌ لا صوتان. نحن العرب.
قاسم حداد، وإبراهيم نصر الله ، وبثينة العيسى، وحمور زيادة.. قاماتٌ أدبيةٌ عالية، تحملوا مشقة القيل والقال ليكونوا هنا.. هنا في فلسطين لا إسرائيل.
آتوا، ليختصروا الحكاية، بكلمتينِ اثنتين، نحن هنا.. ونحن هنا هذه، لغةُ فعل، لا لغة شعار.
هم ليسوا مجردَ زائرين عابرين، وإنما هم الزيارة بحدِ ذاتها، هم الزيارةُ بالمعنى المجازي للقول.. هم الزيارةُ لأننا نعي أن الحكايةَ العربية بكلِ تجلياتها، هي نفسها الحكاية الفلسطينية بكلِ خصوصياتها، وتفاصيلها السوداء منها والبيضاء، ولا حاجة لتفسيرِ القول هنا.
فالأمر موحشٌ لربما، ولكنه واضحٌ، وضوحَ النتوءِ على الجسد، جسدنا.. فهم آتوا لتفعيل الحدث وتدوين ظلاله بأسلوبٍ أكثر علواً من الكلامِ المباشر.
هم آتوا رغم كل الهزائم المقترحة علينا وعليهم.. آتوا ليكونوا هم الحكاية، حكايتنا العربية في تلاطم الأمواج التي عادة ما تقذفنا إلى الشواطئ الغاضبة، جراء عددٍ لا يحصى من هزائم الذاتِ، للذات.
آتوا ليقولوا بشكلٍ واضحٍ وجلي: نحن نبدلُ الأمكنة في بلادنِا العربية كثيراً، لا لشيء، إلا لضياعِ الحقيقة المحتملة الوحيدة.. حقيقة أن فلسطين عربية، وستبقى عربية.
شكرا لكم جميعا، لكل من كسر، يكسر الحصار، حصار العربي للعربي، هذا ليس دفاعاً عنهم، وإنما إدانة للعرب.