عندما جاءَ - نابليون بونابارت - إلى الشَّرق عبرَ البحار حاملاً معه أحلامه الإمبراطوريَّة الزَّاخرة بالتأويلات التَّاريخيَّة الحواضريَّة - مَدفوعاً بمفاعيل بلورة الشَّخصيَّة والهويَّة القوميَّة والثَّقافيَّة الأوروبيَّة المسكونة بشعورِ التَّفَوُّق الأصلاني، وانبعاث الدَّولة الحديثة على أساسِ المعرفة والعلوم وانبثاق حقبة الصِّناعة ومترَتِّباتِها فيما يتعلَّق بأهميَّةِ الوصولِ إلى مناطق جغرافيَّةٍ بْكْر وبالتَّنافسِ على حيازة مصادر وموارد المواد الخام واستثمار الطَّاقات لصالح شعوب القارَّة الأوروبيَّة عبر وما وراءِ البحار، كإحدى أهم المظاهر التي رافقت بروز ظاهرة الإستعمار خارج القارَّة – لمْ يجلِب معه العساكر فقط بل جلَبَ إضافةً إليهم طواقم من العلماء والخبراء في مجالات العلوم والمعارف الإنسانيَّة والتَّاريخيَّة والطبيعيَّة والأثريَّة، وكان هذا أحد تجلِّيات علاقة البُنى والمنظومات الثَّقافيَّة الإمبرياليَّة المُتَبَرْعِمة في سياقات الشُّعور الجذري بالتَّفَوُّق على أساسٍ عِرْقِيٍّ أصلانيٍّ يريدُ اكتشاف العوالم المجهولة والاستئثار باستثمارِ مكنوناتِها وتسخيرِ سكَّانها – الدُّون المتخلِّفين – في خدمةِ السَّيِّد الأوروبي المتفوِّق عرقيَّاً وثقافيَّاً وحضاريَّاً، وهذا التَّصوُّر عن العوالم الأخرى هو ما كان يطبع – بالمناسبة - ثقافة وآداب القرن الثَّامن عشر في أوروبا !!.
فعلى هامشِ حملة نابليون على مصر عام 1798م وكأثرٍ ثقافيٍّ من آثارِها وكوسيلَةٍ لتبريرِ دوافعها في ذات الوقت، وفي عشرينيَّات القرن التَّاسع عشر – 1820 م - وضعَ مجموعةٌ من العلماء الفرنسيين موسوعة " وصْفُ مصر " وهي موسوعة تقعُ في أربعٍ وعشرين مُجلَّداً، تصفُ تضاريس مصر ومعالمها التَّاريخيَّة ومعابدها، كما تتناول أهميَّة موقع مصر الجغرافي ومزياها الجيوسياسيَّة، بالنِّسبة للقوى المجاورة وللقوى الكبرى الفاعلة في العالم آنذاك.. كَتَبَ " جانْ بابتيست " و " جوزيف فورييه " في مقدمة الموسوعة :
" تحتلُ مصر في تموضعها بين إفريقيا وآسيا، وفي سهولة اتِّصالها بأوروبا، مركز القارَّة القديمة. ولا تُقدِّم هذه البلاد سوى الذِّكريات العظيمة؛ فهي أرضُ الفنون، وهي تحفظُ مآثر لا تُحصى، ما تزال معابده الرَّئيسيَّة والقصور التي سكنها ملوكها قائمة – رغم أنَّ أقلَّ صروحها عراقة كانت قد شُيِّدَتْ حين حدثت حروب طروادة – وقد رحلَ كلٌّ من هومر، وليكيرغس، وفيثاغوروس، وأفلاطون إلى مصرَ لدراسة العلوم، والدِّين والقوانين، وأسَّسَ الإسكندرُ فيها مدينة عامرة بالثَّراءِ والرَّفاه، مدينة تمتَّعت لزمنٍ طويلٍ بالسِّيادة التِّجاريَّة، وشهِدَتْ بومبي، ويوليوس قيصر، ومارك أنتوني، وأُغسطس يقرِّرون فيما بينهم مصير روما ومصير العالم بأسره.. ومن هنا يليقُ بهذا البلد أنْ يجذِبَ اهتمام الأمراء العظام الَّذين يتحكَّمون بمصائر الأمم.. ولمْ يحدُث مرَّة أنْ حَشَدَتْ امَّةٌ من الأمم لنفسِها قوَّة ذات شأنٍ سواءً في الغربِ أو في آسيا، دون أنْ تقودها هذه القوَّة باتِّجاهِ مصر، الَّتي اعتُبِرَتْ بوجهٍ من الوجوه نصيبها الطَّبيعي ".
هكذا إذَنْ يتحدَّث – جوزيف فورييه – بوصفه النَّاطق المُعَقْلِن لغزو نابليون لمصر عام 1798 م وعلى أهميَّةِ ما جاءَ في تلك الموسوعة من معارف، إلَّا أنَّ مقدِّمتها كانت في الحقيقة محاولةً لتبرير سلوك الغزاة الفرنسيين، ومحاولة لِعقْلَنَة وشَرْعَنَة ذلك الغزو من منظور المنظومة الثَّقافيَّة الامبرياليَّة الإمبراطوريَّة الحديثة المُتَبَرْعِمة في كلٍّ من إنجلترا وفرنسا منذ أواسط القرن السَّادس عشر. وفي الحقيقة فإنَّه لم يكن يعني أهل مصر في ذلك الحين ما جاءَ في تلك الموسوعة بمقدارِ ما كان يعنيهم ثقل وفجاجة رؤية المراسيم العسكريَّة الفرنسيَّة المتغطرسة في القاهرة وغيرها من أنحاء وأنجاع مصر. ولإنْ كانت تلك الموسوعة قد تحدَّثتْ عن مصر الجغرافيا والمعالم، لكنَّ سلوك الغزاة الفرنسيين كان يؤكِّدُ على مسألةٍ جوهريَّةٍ أخرى في تعاملهم مع المصريين وهي أنَّهم مجموعة من البشر ليسّ لهم تاريخ، بل يجبُ أنْ يُعاد اختراع تراثهم من جديد وفق المنظور الثَّقافي الغربي.
نجد ذلك النَّفس الثَّقافي الإستعلائي أيضاً في رواية الرِّوائي الإنجليزي – كولرادو – في روايته " قلب الظَّلام " حيث يتحدَّث عن العوالم الَّتي يسودها ظلام الجهل والتَّخلُّف خارج القارَّة الأوروبيَّة في إفريقيا ومحيط البحر الكاريبي وعن الرِّساليَّة الوصفيَّة الطوباويَّة الأخلاقيَّة التي طبعَتْ سلوك الغزاة للأماكن القصيَّة عن مراكز الإمبراطوريَّات الغربيَّة باعتبارِها غنائم يغنَمُها الرَّجل الأبيض في حلبةِ صراع الإمبراطوريَّات على الأماكن القصيَّة التي يعيش أهلها في قلبِ البراري والظَّلام.
ونحنُ هنا لا نقولُ أنَّ الرِّواية والأدب والسَّرديَّات التَّاريخيَّة بشكلٍ حصريٍّ – دونما مفاعيل ودوافع أطماع الحصول على الثَّروة الزَّاخرة وتحقيق الرِّبحيَّة على حساب الشُّعوب الأصلانيَّة في تلك المناطق الجغرافيَّة النَّائية عن أوروبا - هي من خلَقتْ التَّوجُّهات الإستعماريَّة كاساسٍ وأصلٍ بلا منازع، لكنَّها في المقابل قد صاغت المنظومات الثَّقافيَّة التي قد واكبتْ وعزَّزَتْ تمجيد حقائق القوَّة ونزعات التَّفوُّق العرقي الاستعلائي مُتحالفةً مع مفاهيم ووسائل القوَّة العسكريَّة الطَّاغية.
كما نجدُ ذلك في رواية الرِّوائي الإنجليزي – تشارلز ديكنز – إبَّان العهد الفكتوري، وفي الحقبة الزَّمنيَّة التي تدفَّق فيها الإنجليز إلى أستوراليا عبر البحارِ والمحيط، ففي روايته " دومبي وولده " ولدى وصفه لشعورِ الأب المتفوِّق عرقيَّاً لدى ولادة ابنه، يقول:
" لقد صُنِعَتْ الأرضُ لدومبي وولده كي يُتاجرا فيها، وصُنِعَتْ الشَّمسُ وكذلك القمر لكي يمنحاهُما النُّور، وشكِّلتْ الأنهارُ والبحار كي تطفو عليهما سفُنهما، ولقد وعدَتْهُما أقواسُ قُزَحٍ بطقسٍ لطيف، وهبَّتْ الرِّياحُ مع مشاريعِهِما، ودارَتْ الكواكبُ والنُّجوم في مداراتِهِما، كي تضمَنَ نظاماً كانا هما المركزُ منه. واكتَسَبَتْ المُختَصَرات الشَّائعة معانٍ جديدة في نظره، وكانتْ ذات دلالات وحيدة عليهِما؛ فلم يَعُدْ مُختَصَرُ – بعد الميلاد – ذات علاقة بما بعد ميلاد المسيح، بل كان يرمِزُ إلى ما بعدَ ميلاد دومبي وولده ".
وها نحنُ نجدُ الدَّاعية الفرنسي – جول هارمان - المدافع عن الإستعمار، يكتبُ في عام 1910م:
" إنَّ من الضروريِّ أنْ نقبَلَ كمبدءٍ ونقطة انطلاقٍ حقيقةَ أنَّ ثمَّةَ تراتبيَّةً بين الأعراق والحضارات، وأنَّنا ننتمي إلى العرقِ والحضارة المُتَفَوِّقَتَينِ، وفيما تنمحنا التَّفوُّقيَّة حقوقاً فإنَّها تفرِضُ علينا واجبات صارمة. إنَّ المشروعيَّة الأساسيَّة للفتحِ والغَلَبةِ على شعوبٍ أصلانيَّة تكمنُ في الإيمان بتفوِّقِيَّتِنا – ليس تفوِّقِيَّتِنا الآليَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة فحسب بلْ والأخلاقيَّة أيضاً – وإنَّ كرامتنا وعزَّتنا لترتكِزانِ إلى هذه الخصيصة، وهي ما يمنحنا الحقَّ في أنْ نوجِّه البشر ونقودهم. وما القوَّة الماديَّة سوى وسيلةً إلى تلك الغاية !! ".
عندما كان هؤلاءِ يكتبون لم يكن في بالهم أنَّهم يكتبون لغيرِ جماهير وقرَّاء المجتمعات الإمبراطوريَّة الإمبرياليَّة، فلم يكن في بالهِم أيَّاً من القرَّاءِ في المجتمعات التي تعرَّضتْ لمحاولات التَّهجين الحضاري والثَّقافي على هوامش الغزو العسكري. وذلك قبلَ أنْ يُنادي المفكِّرُ الفرنسي – غوتيه – بمفهوم الأدب العالمي العابر للقارَّات والحضارات.
وإنّنَا لنجِدُ آثار تلك الجذور الثَّقافيَّة وتفرُّعاتِها متواصلة متواترة في محاولة عقلنة وتبرير سلوك الغزاة ابتداءً من بابليون مروراً بسياسة دزرائيلي الإنجليزي الذي أوصى بعدم توسُّع الإمبراطوريَّة بل بالمحافظة الأبديَّة على ممتلكاتِها في الهند وأقاصي آسيا وعمق إفريقيا وبمبدأ الرَّئيس الأمريكي الثَّالث – مونرو – الَّذي نادى بضرورة الاستحواذ على الأمريكيَّتين وبمتلازمة الرَّئيس الأمريكي روزفلت الأوَّل الذي حاول الجمع بين التركيز على القارَّة الأمريكيَّة والاندفاع نحو أوروبا والخارج في ذات الوقت، وبالحركة الصهيونيَّة الَّتي جذَّرتْ حركتها الغازية على أسُسٍ من السَّرديَّة التَّاريخيَّة والمِثيولوجيا الدِّينيَّة وإنكار الآخر والتأكيد على تفوُّق العرق الإلهي المخصوص بالحق في عمارة الأرض الموعودة والرِّعاية على حساب الجميع، وليسَ انتهاءً بالمفاهيم الَّتي رافقت تعاظم الغزو الأمريكي للعالم في أعقاب الحرب العالمية الثَّانية تحت الشِّعارات الزَّائفة المتَّصِلةِ بمواجهة الشُّيوعيَّة والإلحاد وإشاعة الثَّقافة والمفاهيم الأمريكيَّة حول الدِّيمقراطيَّة والحريَّة.