الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

شموس يحيى العاصمي بقلم:محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائري

ضوء في الدَّغل

2016-04-11 11:10:58 PM
شموس يحيى العاصمي
بقلم:محمد الأمين سعيدي/شاعر وأكاديمي جزائري

أستعير العنوان الشعري لجون سيناك"شموس يحيى الوهراني" لأتحدّث عن يحيى العاصميّ. وجدْتُه أثناء انتظار دوري لأخذ حقنة مؤخرا في العاصمة في مستشفى مصطفى باشا، وكان معي الصديقان حميد عبد القادر ومحمد علال من جريدة الخبر. يحيى كبير في السن، يبدو في الستينات من العمر أو أكثر، متشرّدٌ، وأيضا مصاب بمرض مزمن، ينتظر دوره مثلي تماما ليأخذ حقنته ينعش بها ترهّل الجسد ويقاوم خيانات البيولوجيا. كانتْ ثيابه متسخة جدا بسبب ما علق بها من برد الشوارع وغيابِ المهجع الكريم، شعره طويل أبيض، لحيته أيضا كثة بيضاء، تقدّمتُ منه ملاطفا سائلا أستأذنه أنْ أمنحه بعض المال ليقتني طعاما يعينه على مقاومة نزلة مرض، فرفض بأدب ودار بيننا حوار بالدارج الجزائري، ويبدو يحيى من كلامه مزدوج اللغة(العربية والفرنسية). حوار عميق من طرفه ولذا سأنقل ما دار بيننا، أثناء انتظار ممل، إلى القارئ، بالفصحى طبعا، بشكل من الترجمة، لأنَّ كلامه لا يبدو أبدا كلام مجانين، بل إنسان من الهيبي ربما الذين قطعوا علاقتهم نهائيا مع مؤسسات دولهم والمؤسسة الاجتماعية والدينية، أو هو مهبول فقط.

-صباح الخير، هل أنتَ مريضٌ جدا؟

-آخذ حقنتي المعتادة فقط، عندي مرض مزمن، أنتظر كما يفعل أولاد الشعب منذ فجر 1962..

-هههههههه لاشانْ طويلة(سلسة الانتظار طويلة)، هل تقبل أنْ أمنحك بعض المال لتشتري به أكلا أو خمرا(بدا من عينيه أنه يشرب بكثرة والله أعلم) أو ما تريد؟

-أنا لا أقبل المال، وحين يصرون عليّ، أرميه غالبا. توقفتُ عن التعامل بالماديات منذ فترة.

-أين المشكل في التعامل بالماديات..؟

-كنت أشعر دوما أنني ثقيل جدا، ولهذا أحرقت كل وثائقي، بطاقتي الوطنية، عقد بيتي، شهادة ميلادي، أنا تقريبا شخصٌ غير موجود. أصبحتُ خفيفا جدا..

-لكن يجب أنْ تأكل، أنْ تشتري ما تأكله وتلبسه..

-أنْ أشتري فهذا مستحيل، المحلات ملك الناس، وأنا لا أطلب شيئا منهم ولو بمقابل، الأكل يرمى في كل مكان، آكل من المزابل مجانا..كما تأكل الكلاب والقطط..

-وأين تقيم السي يحيى؟

-تحت سقف السماء(هذه قالها بالفصحى)، وأحيانا على الأرصفة، كل مرة في مكان، ياكْ نْموتوا نْموتوا، ما دمنا نموت فلماذا نتعب أنفسنا بأعباء الحياة..ارمي اعْليكْ..

-هكذا قد تتعبُ أكثر، ألا ترى هذا؟

-هكذا صرتُ مرتاحا جدا. سأظلّ آكل من المزابل حتى تفكّر الدولة في بناء مطاعم للمتشردين تعويضا لهم عن تعبهم يوم كانتْ لهم حياة طبيعية.

-(سكتُّ وقد التحق بي إلى داخل القاعة الصحفي محمد علال).

-اعتنِ بنفسك، لا شيء يستحقّ، دوري لآخذ الحقنة.

-ربي مْعاكْ خويا يحيى..

كان هذا الحوارُ الممتدّ عبر دقائق وجعا، وأيضا تعلّمَ الحياة من رجل أتعبته الحياة ففرّ بجلد كرامته ليحيى على هامشها، لا ريب أنّ أباه وهو يسميه قد حضر في قلبه شيء من معنى الشاعر القديم ابن كناسة:

"وسميته يحيى ليحيا ولم يكن

إلى ردّ أمر الله فيه سبيلُ".

سماه يحيى وهو اليوم يموتُ في واقع لا يرحم العاقل فكيف يعطف على مجنون مريض مرهق، يموت بالبرد والارتعاد والقهر والحزن العميق المحفور في أعمق عينيه، بوجعٍ قاهر يداريه بقوة الشخصية ورزانة الكلام، بجرح بلاد لم تمنحه سقفا وطعاما ورعاية.

سألتُ عنه الطبيب، قال يأتي دوما ليأخذ الدواء، رجل طيب نادرا ما تشعر أنه مهبول، يقولون كان إطارا كبيرا في الدولة.

كنت قبل لقائه قد تعرضت لحادثٍ في العاصمة نجونا منه بأعجوبة، قمت بشيئين وأنا أرى سيارةً تأتي من الطريق الموازي بسرعة تضرب الرصيف فتطير نحونا:أولا صرختُ بحدة لم أكن أعرف أنني أملكها، رأيت وجهَ التي تسقي شجرة القلب بالمحبة، وربما من أجل صدمة الحادث فهمتُ كلام يحيى أعمق وتفهّمْتُ زهدَه في كل شيء.