عادةً، تكون القصة الحقيقية معلوماتية حين يتم تحويلها إلى رواية، وتسأل نفسك، ما الذي يمكن أن تضيفه رواية مبنية على قصة حقيقية إلى معلوماتك وذائقتك وإحساسك، حسناً، إبراهيم نصر الله فعل ذلك باحترافية وإبداع.
القصة الحقيقية حين تتحول إلى خبر مثلاً، فهي تخلو من الألوان والروائح والمشاعر المخفية لدى أبطالها، إبراهيم نصر الله استطاع أن يأخذنا جزءاً جزءاً عبر جبل كليمنجارو في تنزانيا إلى عالم خطونا فوقه بأرجلنا، شممنا رائحة زهوره وحلقنا مع طيوره، وحقدنا على سفالات جبريل الانتهازي، وأحببنا عدسة إيميل، وأعجبنا بإصرار نورة ورغبتها في الطيران، وحلقنا مع روح يوسف وهي تصعد قمة الجبل قبل أن يصعدها هو بقدم واحدة، وانتظرنا كلمات صول الحكيمة التي غمرته بها رحلاته إلى الجبل مرة وراء مرة، ورأينا الأشياء بعيني هاري القوي والضعيف والحكيم والانتهازي والمحب والمتعب، وتمنينا لو أن نجاة لم تعد إلى الفندق، وفرحنا بعودة جبريل وكأن القدر أعطاه ما يستحقه، وتمنينا لو أن غسان كان هناك، وأحببنا تأنق السيدة المصرية وغناء إيميل، وأعجبنا بموقف جسيكا القوي من صديقها الذي خذلها، كل هذا إضافة إلى ما سمعناه من أصوات وما شممناه من روائح وما شعرنا به من برد ومن نقص في الأوكسجين، استطاع إبراهيم نصر الله أن يأخذنا بسلاسة عبر كل تلك العوالم، لدرجة أننا لهثنا في بعض الصفحات، وشعرنا بالارتياح في النهاية وبرغبتنا في تناول القهوة تماماً حين وصلنا إلى الفندق مع الطاقم بعد أن وصل القمة وعاد إلى الأرض.
وفي وسط الرحلة، وكتداعيات لا بد منها، أخذنا إبراهيم نصر الله إلى هناك، ليست هناك المعتادة التي يتذكر فيها الفلسطيني أشياءه ويبكي عليها، بل إلى تفاصيل أدهشتنا حتى نحن من نعيش هذا الواقع المر منذ سنوات، من تصرفات المستوطنين والجنود باتجاه بيوت الخليل، إلى موقف الأم التي رفضت أن يكون وليدها الذي حضر ميتاً إلى هذا العالم بدون اسم، يجب أن يكون اسمه عبد الباقي كي لا يكون الجنود قد قتلوا "لا أحد"، إلى مقتل المستوطن بطوله الذي تجاوز المترين، بسلاحه الشخصي، إلى غزة وعلاقة يوسف بالبحر، إلى نابلس وعلاقة نورة بجبالها وبأمها وأبيها، أمها التي رفضت أن تقوم ابنتها بالرحلة، لكنها بعد أن يئست من إقناعها، أيقظتها ذات يوم لتقول لها: إذا كان لا بد لك من الذهاب، فعليك أن تتدربي، هذا الموقف الفلسطيني تماماً.
لكن إبراهيم بحنكته الروائية لم يتوقف عند سرد ذكريات الفلسطينيين المشاركين في الرحلة، فقد أخذنا معه في رحلة إلى العوالم الداخلية لكل فرد من أفراد الفريق، من فلسطين والسعودية ومصر وتنزانيا والولايات المتحدة... إلخ، وصار عالم كل واحد منهم عالمنا في النهاية، أدخلنا فيه إبراهيم نصر الله مرغمين، لكننا أحببنا هذا الإرغام لأننا بدونه لم نكن لنستمتع بتلك الوجبة التي قدمها لنا إبراهيم، تماماً كما استمتع من وصلوا إلى القمة بآخر وجباتهم قبلها.
ورغم أنه قدم كل ذلك، ورغم أنه تحدث عن تصرفات المستوطنين والجيش وقمعهم وطرق تعاملهم الخسيسة مع الفلسطينيين الذين كانوا يقتلونهم للتسلية لا أكثر، إلا أن الفلسطيني لم يظهر كضحية لا حول لها ولا قوة، كما أنه لم يظهر بمظهر من لا يتأثر بالموت أو بالاعتقال، فرواية إبراهيم مليئة بالنماذج التي لا حصر لها، النماذج التي تقاوم حتى بتغيير صورة اخترقتها رصاصات الجيش، إلى نماذج العملاء الذين دلوا الجيش على مكان تواجد أبي الشهيدين قبل أن يستشهد هو بدوره بعد أن قتل مجموعة من الجنود، الفلسطيني في رواية إبراهيم نصر الله طبيعي، بمعنى أنه معبأ بالنماذج حتى على مستوى الشخصية الواحدة، يضعف، ويتحدى، وينكسر، ويقوم، ويبكي، ويغير وجهة نظره، ويشعر بالألم، ويقاوح، ويقاوم، ويستسلم، ويتراجع، ويتقدم... باختصار، يفعل كل ما يمكن لبشر عادي أن يفعله، لأنه ببساطة إنسان، لا أكثر ولا أقل.
بعد انتهائي من رواية أرواح كليمنجارو، ظل سؤال واحد يساورني، لماذا أغفل إبراهيم حين وضع نهايات لكل الشخصيات التي صعدت، أو حاولت أن تصعد الجبل، أن يخبرنا بما حدث مع يوسف الغزّي الذي فقد ساقه وثلاثة من أصابع يده؟ بصراحة لم أفهم السبب...
رواية إبراهيم نصر الله، تختلف عن بقية رواياته التي قرأتها في كونها تعطي مشهداً أقرب إلى السينما، فتدعك ترى وتشارك بحيث لا تترك لك مجالاً للهرب من إقرار حقيقتك، فإما أن تكمل المسير مع الصاعدين إلى القمة، وإما أن تتراجع إلى الفندق، فأرواح كليمنجارو لا تسمح لك بالوقوف في وسط الطريق بين الأرض وقمة الجبل.