السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

في الحالة الفلسطينية.. بقلم: خالد جمعة

2014-09-17 10:50:11 AM
في الحالة الفلسطينية.. بقلم: خالد جمعة
صورة ارشيفية

 هل من المنطق أن نكتب الوطن بعيداً عن حالتنا الشخصية تجاهه؟ وما الذي يمكن أن نفعله تجاه وطن لا يقدم لنا ولو قليلاً من مفهوم الوطن الذي درسناه في الكتب؟

على أرض الواقع، لا أتحدث هنا عن الاحتلال الإسرائيلي، فهو احتلال في نهاية الأمر، ولا يمكن أن ننتظر من الاحتلال أن يكون ديمقراطياً أو منصفاً أو غير عنصري، فهذا أمر بديهي، ولكن ما أقوله ببساطة يتعلق بما هو في أيدينا، بما يمكننا فعله ولا نفعله، يتعلق بما حدث وما يزال يحدث، وسيظل يحدث إذا لم تتغير معطيات السياسة في الساحة الفلسطينية، التي ربما لم تعد ساحة فلسطينية مطلقاً بعد الانقسامات والتجاذبات التي تحدث هنا وهناك.

حين كنا طلاباً في بداية أعمارنا، كان الفصيلان الرئيسيان على الساحة الفلسطينية هما فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، وكانت أقسى النقاشات تدور حول: هل الوحدة طريق العودة أم العودة طريق الوحدة، وكانت فلسطين تنهي أي نقاش حزبي أو فصائلي على الفور، وكان النقاش عادةً يتمحور حول ما قدمه كل فصيل لفلسطين، وكنا نتباهى بانتمائنا إلى الفصيل الذي يقوم بعمل جدي تجاه فلسطين، تجاه الوعي الفلسطيني، تجاه التحرير، ولو بطرح نظري وبعض العمليات العسكرية، فكان مناصرو فتح يتباهون بدلال المغربي فيما يتباهى مناصرو الجبهة الشعبية بجيفارا غزة، ويتباهى الحزب الشيوعي الفلسطيني ـ قبل أن يغير اسمه إلى حزب الشعب ـ بفؤاد نصار وعمر عوض الله، كل تنظيم كان يتباهى بما قدمه لفلسطين، للشارع الفلسطيني، فما الذي حدث لتصل الحالة الفلسطينية إلى مثل هذا الإنكار الأيديولوجي للقضية الفلسطينية؟ لماذا أصبح الحزب والتنظيم والفصيل أهم من فلسطين؟.

واقعياً، حين حدث التغيير الجذري على مستوى العالم بانهيار المعسكر الاشتراكي، الذي كان يخلق توازناً في المصالح مع المعسكر الرأسمالي، هذا الانهيار جعل الكثير من الأمور التي لم تكن ممكنة من قبل ممكنة بعد حدوثه، مثل غزو العراق للكويت وتحالف "العالم" ضد العراق، هذا على مستوى الشرق الأوسط، وبالتالي تاهت منظمة التحرير في تحالفاتها، فأجبرت نتيجة الظرف الموضوعي على الاتجاه إلى مدريد لعقد المؤتمر الشهير، الذي نتجت عنه اتفاقية أوسلو.

كان من المفترض أن تكون أوسلو اتفاقية إعلان مبادئ يتم بعدها الحديث عن دولة فلسطينية، وكان من المفترض على ياسر عرفات وقتها أن يعلن الدولة الفلسطينية في الرابع من أيار 1999، لكن ضغوطاً دولية أجبرته على تأجيل الإعلان، واستمرت أوسلو في تفاعلاتها، وأنتجت ثلاثة معسكرات، معسكر مؤيد لها، ومعسكر رافض لها، ومعسكر يتأرجح بين الحالتين، وأصبحت الموارد الفلسطينية والدعم الذي يأتي من أجل إسكات الفلسطينيين مطمعاً لكل الفصائل بعد أن كان مرفوضاً، أو يؤخذ على حذر قبل ذلك، ومع الوقت، أصبح هو الدافع الأساسي لتقوية أي تنظيم، وإعلاء كلمته على التنظيمات الأخرى، فبدأنا في رؤية الأعلام الفصائلية التي غلبت على العلم الفلسطيني تدريجياً، إلى أن وصلنا إلى مرحلة لم نعد نرى العلم الفلسطيني في التظاهرات التي تقيمها الأحزاب، وهذا ليس مجرد فعل يمكن تجاوزه، بل هو تعبير عميق عن حالة الضياع الوطني الذي تعيشه الفصائل.

أصبح الطرح غير وطني في معظم الحالات، وغرقت الساحة الفلسطينية في التفصيلات، الطريق الآمن، تصاريح المرض وتصاريح الزيارة، فتح معبر رفح أو توسيع مساحة الصيد، إزالة مستوطنة عشوائية أو توسيع مستوطنة أخرى، وكل هذا كان يجري دائماً على حساب القضية الأكثر عمقاً، وهي فلسطين بلاجئيها ومياهها وحدودها وقدسها، بعلمها الرباعي الألوان، بأرواح مناضليها الذين استشهدوا وهم يظنون أنهم يموتون من أجل غد أفضل للأجيال القادمة.

إذن أصبح هناك فقدان للتفوق الأخلاقي الذي ميزنا عن العدو الصهيوني، هم يدافعون عن أرض ليست لهم، بكل ما أوتوا من قوة ودهاء وأموال وإعلام، ونحن نخسر ما لنا بسبب اتجاهنا إلى ما لا يخدم نضالنا الوطني، ففي السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، كانت التنظيمات الفلسطينية على الأقل في غزة حسبما أعرف، توزع السلاح على بعضها البعض، والذخيرة حين تنقص من تنظيم يقوم تنظيم آخر بتوفيرها له، وحتى نهاية الانتفاضة الأولى ظل هذا الوضع قائماً، وقد كنتُ شخصياً أعدّ أكاليل الشهداء مع الأصدقاء كل عيد، ولم أذكر يوماً أننا كتبنا على أي إكليل تنظيم الشهيد، كنا نعد الأكاليل للجميع دون استثناء، وأذكر مرة أن أحد التنظيمات الفلسطينية جاءت مناسبة انطلاقته ومعظم الشباب المنتمين له كانوا يقبعون في سجون الاحتلال إثر حملة منظمة، فقام عناصر تنظيم آخر بكتابة شعارات هذا التنظيم بمناسبة انطلاقته، ونكاية بالاحتلال الإسرائيلي، إلى هذا الحد كانت القضية الوطنية هي محور اهتمامنا، ولم نكن نعرف غير العلم الفلسطيني الذي دفع الكثيرون حياتهم ليعلقوه على مئذنة أو فرع شجرة عالية.

في واقع الأمر، بدأت منذ توقيع اتفاقية أوسلو تظهر بوادر لانقسامات على كل المستويات في الشارع الفلسطيني والتنظيمات الفلسطينية، وبدأت دول في الجوار في دعم هذا دون ذاك، لتنفيذ أجندات محددة، وحتى لو كانت هذه الأجندات لها علاقة بدعم عسكري أو دعم حركة تحرر وطني، فما كان يفترض أن تتم بمعزل عن منظمة التحرير مثلاً، أو عن قيادة واحدة للشعب الفلسطيني ليتم التنسيق بشكل أكثر انضباطاً، فأصبحنا نسمع عن قوة حماس وقوة الجهاد وقوة الجبهة الشعبية وقوة فتح، وهذا لم يكن مطروحاً من قبل حين كنا نقول: قوة الشعب الفلسطيني، وتجلت هذه البوادر في الانقسام الذي حدث عام 2007، والمستمر إلى الآن، فمن يستطيع أن ينكر اليوم أننا نعيش في واقعين مختلفين، قطاع غزة والضفة الغربية، بل أكاد أجزم أنهما أصبحا أكثر من مجرد واقعين مختلفين، بل تجاوزا ذلك إلى كونهما ثقافتين مختلفتين، وهذا مأسسة لانقسام أكثر عمقاً سيأتي في المستقبل إذا لم يتم تداركه.

ما حدث في غزة في الشهرين الأخيرين هو مأساة بكل ما تعنيه الكلمة، ولكن من يظن أنها أكبر المآسي فإنه ليس مخطئاً فقط، بل قصير النظر أيضاً، فالمتتبع لخط تصعيد إسرائيل في الحالة الفلسطينية سينتبه بدقة إلى ما يحدث، وسيعرف حتماً متى ستوجه إسرائيل الضربة القادمة وأين، فلم تعد المسألة هي سكوت العالم عما يحدث للفلسطينيين، بل سكوت الفلسطينيين أنفسهم على ما يحدث لهم، ولم يعد للعمق العربي أي معنى، وهذا سيعطي إسرائيل المزيد من إطلاق اليد والتوغل في الحالة الفلسطينية وزعزعة أركانها، طالما أن الرد الفلسطيني لا يتجاوز الغضب، ونتيجة الغضب معروفة دائماً، ينتهي بتفريغه عبر الصراخ، ولكن دون أي فعل منظم.

الأسباب التي أوصلتنا إلى هذه الحالة أكثر من أن نحصيها، ولكن على سبيل المثال، تغيير المناهج الدراسية، والانفصال التام بين الخطاب السياسي والواقع، ففيما يستمع الناس إلى أغانٍ تنادي باستعادة فلسطين من النهر إلى البحر، وتنادي بحيفا ويافا، يقدم الخطاب السياسي اقتراحاً قمته دولة على حدود الرابع من حزيران 1967، نريد خطاباً واحداً، وليس وحدة وطنية، الوحدة الوطنية مستحيلة، ولكن الممكن هو الاتفاق على برنامج عمل وطني يلتزم به الجميع، ووقتها إن قال هذا البرنامج أن علينا أن نحارب فليحارب الجميع، وإن قال إن علينا أن نفاوض فليدعم الجميع هذه المفاوضات، وإن قال إن علينا أن نتوجه للهيئات الدولية فليكن، ولكن في الأساس على هذا الخطاب أن يكون موحداً، لا خطاب مقاومة في جهة وخطاب مفاوضات في جهة، فمن الواضح أن هذا يضعف الحالة الفلسطينية كما لم تكن من قبل.

في النهاية، إن هناك ظروفاً تتغير كل يوم، على المستوى الداخلي والخارجي، لسنا وحدنا في هذا العالم، ومن لم يستطع أن يقدم خطاباً يتواءم مع المتغيرات، فليترك السياسة، وليترك الحرب معاً، لأن أي معركة في النهاية ستتوقف لتبدأ السياسة عملها، ولكن لن تنجح السياسة بدون أوراق في يديها، ولن تنجح المقاومة بدون سياسة توازيها، ونحن كفلسطينيين أعتقد أننا في طريقنا لأن نتجرد من الحالتين.

السابع عشر من أيلول 2014