لبنان- مصطفى أبو حرب
مخيم البداوي، الصغير بمساحته التي لا تتجاوز كيلو متراً مربعاً واحداً، الكبير بقلوب أبنائه، ممن استقبلوا أُولى دفعات النزوح من مخيمات تل الزعتر والنبطية وبيروت في العام 1982، عاد واستقبل نزوحاً جديداً إثر نكبة مخيم البارد التي ألقت بثقلها عليه. وها هو مرة أخرى يبرز ليبرهن عن أصالة أهله واتساع قلوبهم، إذ بات يستقبل العائلات اللاجئة من مخيمات سورية كما باقي المخيمات، ليفوق عدد سكانه الـ40 ألف نسمة جميعهم يشكلون النسيج الاجتماعي للمخيم، ويعيشون في جو من التعايش والتآخي بفضل جهود الأهالي.
ليس ذلك فقط فهناك حارة بأكملها من العائلات اللبنانية التي تسكن في جوار مخيم البداوي منذ تأسيسه في العام 1955. هذه العائلات شكلت مع اهالي المخيم نموذجاَ للعيش المشترك.
البداوي ملاذ أزمات
ينوِّه مدير الخدمات العامة في اللجنة الشعبية في مخيم البداوي ومتابع ملف النازحين الفلسطينيين من مخيمات سوريا أبو رامي خطار إلى أن مخيم البداوي كان سباقا في استقبال العائلات الفلسطينية التي هُجِّرت من مخيمات الجنوب وتحديداً مخيم النبطية، لجانب أهالي مخيم تل الزعتر إثر الاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام 1982، حيث أقاموا لفترة في المدارس ثم بُنِيت لهم منازل من قِبِل منظمة التحرير الفلسطينية في العامين 84-83، إلى أن أكملت الأونروا البناء وبات الحي يُسمَّى بحي المهجَّرين، لافتاً إلى أن ما يزيد عن 170 عائلة من مخيم تل الزعتر وقرابة 80 عائلة من مخيم النبطية ما زالوا يُقيمون في مخيم البداوي منذ العام 1982.
ويشير خطار إلى أن هناك ما يزيد عن 300 عائلة من الأخوة اللبنانيين يسكنون في جوار المخيم أو حتى داخل المخيم وذلك منذ تأسيس المخيم وأنك لا تستطيع أن تذكر مخيم البداوي بمعزل عن ذكر أسماء لعائلات لبنانية مثل (الحلواني وكحيل والناغي و فاتروني) وعائلات أخرى لها حضورها ومكانتها عند أبناء المخيم لما ربط بينها من علاقة التصاهر والنسب.
ويضيف خطار «كذلك أسهم مخيم البداوي بشكل كبير في تخفيف معاناة أهالي مخيم البارد إثر النكبة التي حلَّت بهم في أيار من العام 2007 حيثُ استضافت العائلات من مخيم البداوي أربع وخمس عائلات في منازلها بحكم القرابة أو النسب. ومع بدء الإعمار في المخيم عادت العديد من العائلات لتسكن في مخيم نهر البارد إلا أن قرابة 2100 عائلة ما زالت تقيم في البداوي بانتظار الانتهاء من إعادة الإعمار للمخيم القديم. من جهة ثانية، فإنَّ العائلات التي نزحت من مخيمات سوريا إلى البداوي تجاوز عددها الـ1447 عائلة وجميعها تقيم في المخيم وتتقاسم مع أهله الهواء والماء بانتظار العودة إلى مخيمات اللجوء في سوريا.
ويتابع خطار «بالإضافة إلى ذلك، فالبداوي يقطنه أكثر من 375 عائلة من العائلات اللبنانية التي تقيم بحارة تسمى حارة اللبنانية منذ زمن بعيد، وتُشكِّل جزءاً هاماً من نسيج المخيم وتجمعها مع أهله علاقة حسن الجوار والمصاهرة والنسب. وفوق ذلك فهناك 200 عائلة سورية من الأكراد تعيش فيه، وبالتالي وبهذا (الموزاييك) فإنَّ مخيم البداوي صاحب الكيلو متر الواحد يجمع بين جنباته ما يزيد عن الـ40000 نسمة محطِّماً بذلك الرقم القياسي العالمي للكثافة السكانية.
العائلة والأمان المفقود
كُثر هم من لجؤوا لمخيم البداوي بعد أن فقدوا أُسرهم ومنازلهم، فوجدوا فيه الملاذ والعائلة التي فقدوها.
فمن جهته، يرى أبو خالد غنيم، أحد أبناء مخيم عين الحلوة الذين هُجِّروا إلى البداوي إثر الاجتياح الاسرائيلي للجنوب، أن للبداوي مميزات هامة يوضحها قائلاً: «البداوي يتمتَّع بثقافة أبنائه وتماسك مجتمعه وبالروح الوطنية التي تُخيِّم في كل جنباته. فهذا المخيم فتح أبوابه إثر الاجتياح الإسرائيلي لكل أبناء المخيمات المهجَّرين من الجنوب وبيروت لدرجة أننا استُضِفنا لعدة شهور قبل أن نستأجر منزلاً، وأصبحنا مع الوقت من نسيج هذا المخيم، وعايشنا فترات اللجوء اللاحقة لأهلنا في العام 2006 إثر حرب تموز وفي العام 2007 إثر نكبة مخيم نهر البارد، والآن من مخيمات سوريا حيث يُشرِّع مخيم البداوي أبوابه مستضيفاً العائلات التي وفدت إليه تحملُ معاناتها وثقل حالة اللجوء، فما كان من أهالي المخيم إلا أن بادروا لتقديم كل ما يستطيعون عبر اللجان الشعبية والمؤسَّسات والفصائل لتخفيف وطأة الغربة عن أهالي مخيمات سوريا. فمخيم البداوي صغير بمساحته ولكنه كبير بتعاطف ابنائه واحتضانهم لحالة اللجوء القسري لأهلنا من مخيمات سوريا».
بدوره شكري أيوب ابن مخيم تل الزعتر، حطَّت به الرحال بعد الاجتياح الاسرائيلي للجنوب في مخيم البداوي، فوجد فيه العائلة التي فقد عدداً كبيراً منها في مخيم تل الزعتر، ويلفت إلى أنه لم يعد يرى نفسه إلا أحد أبناء مخيم البداوي لأنه انصهر بشكل كامل مع بيئته وأهله فبات واحداً منهم وأسَّس لحياته بيتاً وعائلة ما عادت تقوى على العيش خارج حدود مخيم البداوي.
اما السيد ابو خالد الحلواني اللبناني الهوية الفلسطيني الهوى فتسكن عائلته في جوار المخيم منذ الايام الاولى لتاسيس المخيم في العام 1955 وتربى واخوته في بيتهم الذي بنوه على قطعة ارض اشتراها الوالد لتنشأ بعد ذلك علاقة متينة بين العائلة وابناء المخيم فدرس الابناء في مدارس الانروا وتزوجو من ابناء المخيم فإبنته زوجة لأحد أبناء المخيم وابنه تزوج من فتاة في المخيم ايضا. وبوجود العائلات اللبنانية إلى جوار المخيم حصل التصاهر وتبادل الخبرات والعادات والتقاليد.
السيد وليد كحيل متزوج من فتاة فلسطينية يقول بأنه يفخر بنسبه ويعتبر زوجته وأهلها أهله ايضا ويضيف بانه ولد وتربى في المخيم لأن أهله اختاروا أن يسكنوا في جوار مخيم البداوي ويشير إلى أنه نسي أكلات والدته لان زوجته قد نقلت مطبخ اهلها معها اي انه تعودت على الأكلات الفلسطينية.
أما السيد محمد الناغي فيقول بأن الكثير من العائلات اللبنانية جاءت وسكنت بجوار المخيم لأنها تملك الأرض ومن ناحية أخرى لأن الإيجارات أرخص من طرابلس والأسعار أرخص أيضا بمعنى الحياة هنا أفضل من السكن في المدينة لأنها أوفر واسهل ولا يوجد فيها تعقيدات لبساطة الشعب الفلسطيني الذي تعلمنا منه الحياة دون تكلف، لقد أصبحنا لا نطيق الخروج من المخيم واذا غادرناه فلا نحتمل الابتعاد عنه وعن أهله.
ويضيف الناغي والله لو قدر للفلسطينيين أن يعودوا وسوف يعودوا إلى فلسطين فإننا سوف نذهب معهم. لقد اصبح مصيرنا مشتركا كما الحياة لقد جمع الله بيننا فتصاهرنا وتناسبنا ولن نرض إلا أن نكون معا.
أما السيد أحمد جخلب فهو الفلسطيني الذي يسكن في حارة اللبنانية كما درجت العادة على تسميتها فيقول بانه لا يجد الفرق في التعامل أو التعاطي فالكل يحترمه ويقدره ويشعر بأن الجميع أهله في الوقت الذي يذهب ابناء حارته الى المخيم هو يبقى بين شباب الحارة لانه اعتاد عليهم واصبح هناك محبة ومودة كبيرة جداً كذلك الامر بالنسبة لزوجته أم محمد التي تقول بان الجميع هون أهل ولا تشعر بأن هذا لبناني أو ذاك فلسطيني لقد انتفت الجنسية هنا فصرنا كلنا اخوة متحابين.
من جهة ثانية، فالسيدة هبة الجارحي لاجئة من لاجئي مخيم اليرموك، سكنت في منطقة سير الضنية عندما جاءت إلى لبنان هاربة من أتون الاحتراب في سوريا، ولكنها لم تجد ضالتها في تلك المنطقة من حيث الأمن والأمان، لذلك لجأت إلى مخيم البداوي حيثُ الأهل والقضية والأمان الأسري. ورغم أنها تركت أهلها في سوريا، إلا أنها وجدت في أهالي مخيم البداوي عائلة جديدة، وهي تسكن اليوم في شارع ابو الفوز وأصبح لديها عائلة جديدة وصداقات في مخيم البداوي بانتظار العودة إلى مخيم اليرموك.
ولا ريب أن الجارحي ليست وحدها من وجدت في البداوي ملاذاً بعد التهجير من سوريا، حيثُ يُشاطرها الرأي كل من منال خليل ومحمد جمال وياسر محمد حمادية.
فالسيدة منال خليل من منطقة الحجر الأسود في سوريا تروي بأنها استُضيفَت في مدينة الميناء في طرابلس عند أقرباء لها ولكنها فضَّلت المجيء للعيش وسط المجتمع الفلسطيني في مخيم البداوي، وهي اليوم تشعر بأنها وسط أهلها وعائلتها في هذا المخيم الذي تعتبره إحدى سُفُن العودة إلى فلسطين.
وبدوره، محمد جمال، رب الأسرة المؤلَّفة من خمسة أفراد، غادر مخيم اليرموك كما كل العائلات الفلسطينية تحت ظروف قاسية تعاني منها كل المدن السورية اليوم ومنها مخيم اليرموك. وعن اختياره لمخيم البداوي مكاناً لسكنه يقول: «تركت المخيم وبي شوق إليه ولكنني كنت مُكرَهاً لحماية أُسرتي، غير أنني لم أجد مكاناً أفضل من العيش في مخيم البداوي لأن لي فيه أقارب، وأنا أرى في المخيم بيئة متطابقة مع بيئة مخيم اليرموك لأننا شعب واحد وأصحاب قضية واحدة، وفيه وجدت الحضن الدافئ الذي أواني ولملَم شتات عائلتي».
امَّا ياسر محمد حمادية من مخيم النيرب في حلب، فوجد في مخيم البداوي المسكن والأمان، وها هو يعمل لتأمين قوت عائلته المؤلَّفة من أربعة أفراد صغيرهم وُلِد في مخيم البداوي.
ياسر كوَّن العديد من الصداقات من أبناء المخيم وهو يتوق للعودة إلى مخيم النيرب عما قريب، إلا ان مقامه في مخيم البداوي يُصبِّره لأنه لا يشعر بالغربة كون المخيم يبقى عنوان لجوء ويشكِّل سفينة الإبحار نحو الوطن.
من جهة أخرى، ترى الناشطة الاجتماعية مديرة جمعية الرعاية والتنمية الأسرية أمال الحلو أن أهالي مخيم البداوي كانوا ولا زالوا مستعدين لاستضافة كل فلسطيني ضاقت به الدنيا، وتضيف «نحن في النهاية أهلٌ، وبيت الضيق يتَّسع لألف صديق، فكيف الحال اذا كان هذا الضيف أخاً. والجميع في مخيم البداوي فتحوا البيوت لاستقبال الأهل والأقارب ولكن الأعداد باتت كبيرة وتحتاج إلى تنظيم حتى لا يجعل منها عبئاً على مناحي الحياة في المخيم. ولكن كل الاخوة الذين وفدوا إلى مخيم البداوي من مخيمات اللجوء على مر سني الاحتراب في لبنان، وحالياً من مخيمات سوريا، وجدوا الترحيب بهم منا نحن اهالي مخيم البداوي»، مشدِّدة على أن مخيم البداوي كسائر المخيمات يشكِّل نقطة انتظار لحين العودة إلى فلسطين.
وعن العلاقة التي تربط أهالي المخيم مع الجوار اللبناني تقول الحلو بأن هذه العلاقة تاريخية لقد درسنا معا وتقاسمنا الايام حلوها ومرها فرحنا معا وخفنا معا أثناء غارات الصهاينة على المخيم وها نحن اليوم نواجه كل التحديات أيضا معا.
يبقى مخيم البداوي ملاذا آمنا وحضناً دافئا لكل ملهوف كما باقي المخيمات. غير أن الجميع الفلسطيني عليه أن يدرك أنَّ هذا المخيم يقف شامخاً على مقرِبةٍ من بركان التقاتل اللبناني اللبناني، مما يحتم علينا كفلسطينيين أن ننأى بأنفسنا من مغبة الانجرار إلى هذه الاشكالات الأمنية لأن في مخيم البداوي ما يزيد عن 40000 نسمة هم أمانة في أعناق القيِّمين والمسؤولين عنه.