بموافقة مجلس النواب على عزلها من منصبها ومقاضاتها بتهمة التلاعب، بغرض إخفاء العجز في الموازنة، أصبح جليا أن ديلما روسيف، وهي أول امرأة تتولى حكم البرازيل، تواجه أزمة سياسية، تكاد تعصف بفترتها الرئاسية الثانية، بل وتهدد أيضا بتقويض سلطة يسار الوسط، الذي يحكم البلاد منذ عام 2002،فبالإضافة إلى هذه الحرب الشعواء التي تدور معاركها داخل الأروقة البرلمانية، تتأكل شعبية روسيف شيئا، فشيئا في الشارع، مع تكرار موجات احتجاجية تندد بارتفاع الأسعار، وازدياد التضخم ونسبة البطالة، وتردي الأحوال المعيشية بشكل عام.
لكن كيف تحولت المناضلة الماركسية ضد الديكتاتورية العسكرية إلى متهمة بالفساد؟ وكيف يرفع متظاهرون اسمها يطالبونها بالرحيل بعد أن كان الاسم ذاته يقترن ببطولات الدفاع عن الفقراء والسعي لمكافحة التفاوت الاجتماعي في البلاد؟
تابعت خلال الأيام القليلة الماضية التصاعد الدرامي للأحداث التي كانت سريعة إلى درجة لم تسمح للبعض بالانحياز لوجهة نظر قاطعة، تعبر بدقة عن طبيعة ما يحدث في البرازيل، فمن ناحية هناكإغراء لم يستطع البعض مقاومته متبنيا الرواية الإخوانية المصرية، التي تعتبر مضي مجلس النواب، ثم الشيوخ، قدما في اجراءات عزل روسيف، ما هو إلا انقلاب على شرعية وفرها لها الصندوق مرتين، الأولى في 2010، والثانية في 2014، أما السبب فهو استماتة مكونات الدولة العميقة في الحفاظ على هيكليتها واستقتال أفرادها في حماية مناصب مآلها الزوال في حال تحققت الوعود اليسارية بالإصلاح ، مؤيدو هذا الرأي يستندون إلى حقيقة أن 60% من النواب الذين صوتوا لصالح عزل روسيف ومحاكمتها، هم متهمون أصلا في قضايا فساد .
بخلاف هذه الرؤية التي قد تكون متأثرة بأحداث شرق أوسطية لها خصوصية معينة، هناك معسكر أخر لا يقيم وزنا كبيرا لتحركات الطبقة السياسية والبرلمانية، بقدر ما يرصد التحركات الشعبية، فالبرازيليون في خروجهم مرة تلو الأخرى إلى الشوارع يبدو واضحاً، أن ايمانهم بشعارات رفعها حزب العمال ذات مرة، قد فتر، وأن الغضب من الركود الاقتصادي وفقدان فرص العمل، قد تسرب إلى النفوس، بالإضافة إلى ما هو أخطر، وهو أنهم ضجوا من فساد مستشري لم يبرئ منه مسؤول حتى الرئيس الإصلاحي السابق والأب الروحي لروسيف لولا دا سيلفا.
الحقيقة أن كلا الرؤيتين صحيح بقدر معين، ففي عام 2002، وهو التاريخ الذي تولي فيه دا سيلفا إدارة شئون البرازيل، كانت البلاد ترزح تحت واقع اقتصادي صعب، لكنه استطاع من خلال تطبيق إجراءات تقشفية صارمة، تبعها جذب للاستثمارات، وتوفير فرص عمل، أن يحقق استقرارا اقتصاديا مذهلا على مدار ثمان سنوات، أصبحت خلالها البرازيل، الاقتصاد الأقوى في القارة اللاتينية، وعضوا في كيانات اقتصادية هامة كميركوسور، ومجموعة العشرين، وتجمع البريكس، وتحولت من دولة مدينة لصندوق النقد الدولي، إلى دولة مقرضة له، وبلغ النمو الاقتصادي حدا جعل البرازيل من أقل دول العالم تأثراً بالأزمة المالية، في عام 2008 وبالرغم من أن لولا دا سيلفا لم يقض على الفقر تماماً، لكنه استطاع الارتقاء بالملايين من الفقراء إلى الطبقة المتوسطة.
روسيف التي اختارها الرئيس السابق لتتولى الحكم من بعده، سارت على خطى سلفها وحاولت أن تنتهج السياسات نفسها، فرسمت صورة مشابهة له، لكن فقط أقل جاذبية وصار واضحا، أنها بشعبيتها المتزعزعة وارتباط فترتها الرئاسية الثانية بحالة ركود اقتصادية هائلة، وأخيرا اتهامها بالفساد، صيداً سهلاً لبعض الأطراف التي تحاول ازاحة الحزب الحاكم، الذي لا ينتمي إلى دوائر السلطة التقليدية.
مما لا شك فيه أن تصويت مجلس النواب على عزل روسيف، كان بمثابة استفتاء على استمرار حزب اليسار في السلطة من عدمه، أكثر مما كان تصويتا على التهم الموجهة لروسيف نفسها.
الرئيسة الحالية لم تكن فقط كبش فداء لرؤوس فاسدة تخشي القطاف، بل هي أيضا ضحية ولائها للرئيس السابق، ولاء دفعها لتعيينه رئيساً لديوان الحكومة في خطوة اعتبرها البعض مناورة لمنحه حصانة تحميه من أي اجراءات قضائية تعقب ورود اسمه في فضيحة فساد كبرى داخل شركة بتروبراس الحكومية للنفط.
خلاصة القول إن البرازيل بتحررها من الحكم العسكري، ومن ثم انتقالها إلى النظام الديمقراطي، وتحقيقها معالجات نمو اقتصادية عالية، كانت بمثابة دليل أن التغيير والتقدم ممكنان حتى في دولة نامية، لكن على ما يبدو تلاشت المثالية اليسارية ما أن وطأة أقدام معتنقيها القصور الرئاسية، وذاقوا طعم السلطة، ففقدت الأمة ما حققته بشق الأنفس، وما أزيح عنه الستار، يؤكد أن إصلاحات حقيقية لم تحدث وأن آفة عملاق أمريكا اللاتينية كانت ولا تزال؛ الفساد.