أن يجري تقييم الشعوب وفقاً لما تقدمه من إبداع، فذاك يستدعي تفكيراً بجنس أدبي طالما عده المراقبون واحداً من أهم معالم الحضارة الإنسانية. ذاك هو مسرح موضوعه الإنسان، ووجهته الإنسان، ولطالما قيل عنه إنه «اندفاعة العقل للإطاحة بالمستبد ومغتصب الحياة». من هنا تأتي الحاجة إلى نقد يحمي أدباً يناضل من أجل حرية تتعرض إلى انتهاكات متتالية، ويعمل- وهو الواعي بثقافة الفرجة- على استقطاب جمهور المتفرجين وحثهم على التوافد إلى عروض مسرحية تستحق الالتفات إليها وحضورها. ونحن هنا نتحدث عن وسيط يحمل من الأدوات ما هو كفيل بإضاءات متخصصة لا تتوقف عند حدود النص واللغة، بل تتجاوز هذا إلى فنون بصرية وسمعية مختلفة, تنبع هي الأخرى من حقل أكاديمي يتكئ على أطروحات ودراسات جامعية ذات طابع جدلي فاعل، يضمن تحركاً مرناً بين مجال نظري وآخر تطبيقي يسمح بفتح قنوات حوارية، همها الارتقاء بهذا الفن بشتى الوجوه الممكنة.
هنا لا أخفي إحساساً بأن منطقتنا العربية تشهد حالة من التراجع على الساحة المسرحية العامة، وقد لا أبالغ إن قلت إننا نشهد حالة من الخمول الإبداعي والنقدي بحق هذا الجنس الأدبي. ولعلي في هذا المقام أتوجه بالسؤال إلى جامعاتنا العربية: أين هي من ورشات مسرحية تكتشف فيها مواهب فنية شابة؟ أين منا من يلفت نظر الجيل الجديد إلى جنس أدبي يمكن تطويعه ليكون فعلاً تغييرياً وشمولياً لو أحسنا التعامل معه؟ ولا يمكن بحال من الأحوال غض النظر عن مسؤولية تتحملها الدولة في تردي مجال فني له متطلباته واحتياجاته المالية الخاصة، بما يدفع بعضاً من مبدعيه إما إلى الاعتزال، أو التفكير بهجرة توفر لهم ما بدا مستعصياً في بلدهم الأصلي.
أن نتكئ في كتابتنا عن المسرح على نظريات غربية، فذاك أمر طبيعي له ما يبرره في سياق مناخ ثقافي وحضاري يتعامل مع هذا الفن باعتباره وافداً إلى الثقافة العربية، ولا غضاضة إذ تحضر هذه الخاصية بالتوازي مع دعوة إلى مسرح عربي ما فتئ يستلهم موروثات شعبية مستلهمة من التراث القديم. ويبقى مهماً في هذا السياق ملاحقة الفعل الإبداعي بكل ما هو متوفر من أدوات، ليكون من حق فريق مسرحي عمل بجد ونشاط أن يأتي ناقد يعمل بحياد وموضوعية لإيصال ما يستحق أن يصل إلى جمهور المتلقين. وأنا هنا أتحدث عن ناقد يرقب بعناية علامات بصرية وسمعية خاصة بالمسرح تشمل (الممثل، والإضاءة، والديكور، والإكسسوارات، والمؤثرات الصوتية) وكل ما له علاقة بأدب كتب ليعرض على خشبة المسرح.
بعين المراقب المحب للمسرح أقول: إننا نفتقر إلى حالة نقدية متخصصة تفتح أبواباً جمالية مغلقة في وجه المتلقي أو المشاهد العادي. لا أقلل من قيمة انطباعات عامة أولية نأخذها من غير المتخصصين، إلا أني ألمس حاجة ملحة إلى تجاوز ما بتنا نراه من أخبار عن عروض مسرحية، يجري تمريرها على أبواب صحف ومجلات لنكون تحت رحمة أفكار انطباعية متكررة، همها نقل الخبر أو تمريره بعيداً عن قواعد وأصول خاصة بالعمل المسرحي.
يبقى أن نصوصاً مسرحية بعينها تترك أثراً على متلق تقليدي على استعداد للتورط والاندماج معها, يقتضي تفكيراً بآخر يتحول وفقاً لعبد الفتاح كيليطو إلى ملاحظ يثير الأسئلة حول كل العناصر الدالة التي تظهر في العرض، يفككها ويحلل العلامات البصرية والسمعية فيها، ليكون المتأمل في ماهية المعنى ومصدره، وليغدو بعد ذلك المتورط بفعل ممتع لا يخلو من تعقيد، وقد يحمل من الإمكانيات ما يجعله حدثاً ثقافياً قادراً على تلبية رغبات الجماهير على مستوى ثقافي مرتبط بالهم العام، وآخر جمالي يرتقي بالذائقة الفنية ويسمو بها.