وحيد الطويلة / كاتب وروائي مصري
مقطع من رواية باب الليل
وحده يأتي، وحده يجلس، وحده يحكي وحده، كأنه شبح جديد .
بوجه قلق يفتح حقيبته، يقلب أوراقاً ويبدأ في الكتابة، لا أحد يعرف بالضبط ماذا يكتب، يقولون إنه يدون مذكراته عن الثورة الفلسطينية، عن الفترة التي عاشها في العراق.
أبو جعفر، اسمه الحقيقي والحركي، ابنه اسمه جعفر، مناضل قديم في الثورة، من الفلسطينين الذين قضوا عمرهم في العراق وربطوا الخيوط - بين القيادتين - هنا وهناك.
ربطها بصعوبة في الفترات المتقلبة هنا وهناك وما أكثرها، لكنه أحكمها جيداً حين قبض صدام حسين على السلطة.
الرقص الناعم يحتاج إلى عاشقين، الرقص الحار يحتاج مجنونين، في السياسة لا بد له من داهيتين، أو داهية ومجنون على ﺃقل تقدير.
مناضل، قل راقص، من الطراز الرفيع وبدون ميكروفونات، دخل حزب البعث من الباب الكبير، المرحلة تاريخية، كلاهما يحتاج الآخر، كل واحد يريد أن يسيطر على الآخر، يأخذه في اتجاهه، يركبه فقط.
البعث يناسبه، على مقاس أحلامه تماماً، رسالة واحدة، أمة واحدة، تحرير الأرض من العدو والخونة، كلام كبير، فقط هناك تفصيلة يدركها لكنه لا يحكي عنها لأحد: إن العدو ليس واحداً دائماً.
دخل وزرع قدميه، رقص في كل الفصول، حافظ على الخيط الرفيع، شده إن أرخوه وأرخاه إن شدوه، وبين سنة وضحاها أصبح الرقم الصعب في العلاقة بين الاثنين .
مناضل بجناحين، كان على موعد مع المرحلة الذهبية، يقولون إن علاقته بصدام أكسبته القوة وأعطته البوصلة، وصار ذا باع طويل في بلاد الرافدين.
تحت الجناحين برم الدنيا من بوخارست إلى بون إلى براغ، أماكن النضال ومسرح العمليات، واستطاع التوفيق بين جميع الحبال، طموحات الثورة وأهداف الآخرين.
لم يكن عميلاً مزدوجاً، كان عميلاً- إن شئت الدقة - لحلمه بوطن واحد كبير.
رجل مخابرات من طراز رفيع – يقول أبو شندي – حصل على الدعم من كل الدول التي حط فيها، ملأ جيوب الثورة وأوجد لها في كل مكان - دخل إليه - من يقف معها، نسق العمليات القذرة والنظيفة معاً، حارب العملاء وأشار عليهم بالواحد.
لكن التاريخ قلّاب وبدّال كقلب ساقية البار، له سبعة أوجه ومائة قناع،.. اُحتل العراق وسقط قائد النشامى صدام.. يقول ويضرب الطاولة بقبضة يده تكاد تطير.
حذار أن يحدثك وتلهو عنه، أو تبتعد عن مرمى حكايته، في النصف الثاني للخمسينيات بعينين غريبتين، كل واحدة تنظر في اتجاه ، واحدة لأقصى اليمين والأخرى لأقصى اليسار، لا تنظران للأمام معاً، كأنه كان ضرورياً أن يخلق هكذا ليعرف أين يضع قدمه ولينظر بسبع عيون.
عيون وملامح وجسد أقرب إلى جان بول سارتر إن كنت قد رأيت الأخير في الصور، يمكن لك أن تبحث عنها لتتأكد بنفسك.
يلتفت ناحية أبو شندي وبوجه متغضن بالحسرة يقول : الأمة العربية كلها - ما عدا الرفيق صدام- اشتغلت على الثورة الفلسطينية، ورقة التوت التي غطوا بها عوراتهم، ناضلوا بها كذباً ونافحوا عنها بهتاناً .
يصمت كدهر ثم ينطق كلحظة :
- كسبوا بها وخسرنا نحن.
وأبوشندي آخر واحد في الكون يحتاج هذ الكلام، وأبو جعفر متأكد من أنه يبشِّر مؤمناً، لكنه يحتاج لواحد حقيقي يبثه بياناته وحكاياته.
اللحظة الفاصلة في حياته كانت لحظة سقوط العراق في يد الاحتلال، سقط معه، محا الغزاة تاريخه في أيام، قتلوا كل أحلامه وتركوها دون قبر، كل ما عاش من أجله رآه يتبخر أمام ناظريه.
كان عليه أن يخرج سريعاً حتى لا يقتل كدابة حقيرة، كانوا يقتلون الفلسطينيين أولاً ثم يفكرون بالباقي ، لم يعرف أين ولده ولا زوجته ولا استطاع البحث عنهما، على ظهره حمل جثه ماضيه، وكصاروخ طائش بحث عن أقرب سهم صدىء على لافتة متآكلة يشير إليه ببوابة الخروج.
حزم حقائبه ونفد بجلده، للأمانة كان بلا حقائب، واحدة فقط كانت تحمل ذهوله وبعض فتات تاريخه، أدويته وأوراق الثورات والانقلابات التي عايشها وشارك فيها.
لم يأت إلى هنا على مراكب المطرودين من بيروت، ولا حط كطيور النورس باحثاً عن دفء أو مأوى، كان مطروداً وحده.
حط هارباً في لحظة لم تخطر على بال رسام أو مؤرخ، يقولون إنه مشى أياماً حتى وصل الأردن، لا يعي ماذا حدث بالضبط، الذين رأوه في اليوم الأول قالوا إنهم شاهدوا رجلاً يمشي بدون رأس، بحقيبة واحدة على ظهره، الذين رأوه في اليوم الثاني قالوا إنهم شاهدوا رأساً على الأرض يتدحرج بسرعة وحده باحثاً عن جسده، بشارة موت معلقة في أذنه اليسرى.
آخرون قالوا إنه كان يطير في الهواء وينبح.. ينبح بلا توقف ككلاب الجحيم.
أمريكا احتلتني وحدي، حبستني وحدي.
عندما جاء إلى هنا، لم يجد أحداً في استقباله ، كان يعتقد أنه سوف يعامل معاملة الفاتحين، وسيجد جماهير الثورة في انتظاره ليعاود مسيرة النضال من جديد، وأن السجاد الأحمر سيترنح تحت قدميه، لم يجد أحمر ولا أسود، وجد بقايا بشر بدون أظافر، يلهثون وراء لقمة يومهم، يحلمون- بيأس وافر- بأي بلد يقبل أن يرحلوا إليه ولو في جزر الكاريبي، أو عن جواز سفر بأي اسم كان.
فلسطينيون كأوتاد مخلوعة من أرض حرقت ونفق أصحابها، يعيشون تحت رحمة تجديد الاقامة السنوية لهم ولعائلاتهم، لا يضمنون سنة جديدة، يحصلون عليها بعد أن تطلع أرواحهم، بعد أن تكون السنة قد قاربت على الانتهاء، قبل نهايتها بشهرين أو ثلاثة، ليحملوا الصخرة من جديد، يصعدون الأيام بها والجبل، ولا يعرفون حتى حدوداً يلجئون اليها، يحتمون ليلاً بأسلاكها الشائكة.
الذين رحلوا رحلوا، تبخروا كالأقراص الفوارة، والبقايا أطلال ثوار يناضلون باليأس، يفتشون بالكاد عن موضوع باهت يقتلون به نهارهم.
أبو جعفر المنصور، كما كانوا يسمونه، حامي حمى الثورة في العراق- وجد نفسه في لحظة واحدة أبو جعفر المهزوم، ضاع العراق الذي كان يلعب فيه دور البطل الثاني، البطولة الأولى محجوزة، ضاع الكفاح الذي كان يقوم فيه بدور الحارس الأول، والأرض التي وطئها آخر ما تحتاجه مناضلون ولو بالحناجر.
الناس هنا تناضل في كرة القدم وفي عجيزات النساء، في لقمة العيش وتفكر بشره شديد في النقود يا أبا جعفر.
ولا أحد يملك أذناً ثالثة ليسمعك.