صريح العبارة
تيسير الزَبري
لسنا بحاجة إلى استعراض مجريات ما حملته الأزمة في اوكرانيا وتداعيات أنتجت إنفصال شبه جزيرة القرم عن اوكرانيا وانضمامها الى الدولة الأم روسيا في آذار الماضي. ولكن ما نحن بحاجة ماسةٍ إلى قراءته هي الدروس المستخلصة في ظل الصراع الدولي الذي يقف مرة أخرى على أبواب ما يسمى بالحرب الباردة (وهو المصطلح الذي كان سائداً في ذروة الصراع ما بين الاتحاد السوفييتي (سابقاً) والدول الغربية الرأسمالية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية).
في عالمنا العربي، وفي أوساط حركات التحرر، وكل أطراف الصراع الداخلي بما فيها قوى الشد إلى الوراء والتي تصر على مد جسور الود - وإن شئنا الدقة - خيوط التبعية مع الدول الاستعمارية الرأسمالية، فإن عليها أن تدرك أن المستجدات الدولية والموازين تتبدل كل يوم، وبأن سيطرة القطب الأوحد قد ولت وأصبحت من الماضي، والأمثلة على ذلك كثيرة.
روسيا الجديدة، مركز التطور الجديد، تمتلك الجغرافيا (فهي أوسع بلاد العالم) وأكثرها ثروة: من المعادن، والغاز، والبترول، والقوى البشرية المتطورة، وارثة النهضة الكبرى من الاتحاد السوفييتي، وتمتلك - وهذا هو الأهم - الإرادة السياسية والحزم في اتخاذ القرارات السياسية في حين يمتلك عالمنا العربي الجزء الأول مما تملكه روسيا (الثروة، والمواقع، والسكان) ولكن يفتقر إلى الإرادة السياسية فهو إما تابعٌ أو ممزقٌ أو منقسمٌ بطوائفه ويعاني بالنتيجة من كل أشكال التخلف الحضاري.
روسيا لم تقبل بالانقلاب الذي تم عشية الاتفاق بين القيادة الشرعية لأوكرانيا بزعامة يانكوفيش والمعارضة بالرغم من أن ذالك الاتفاق – الذي عاش لساعات – لم يرضِ القيادة الروسية لكنها احترمته وطالبت بتنفيذه بدلاً من وضع البلاد على مرجل ساخنٍ من الصراعات الداخلية لا أحد يستطيع التنبوء بما سوف تودي اليه لاحقاً.
الرد الروسي على الانقلاب لم يتأخر، فتحرك البرلمان في شبه جزيرة القرم، ودخل في عملية استفتاء على الانضمام الى روسيا ونجح فيها، وعادت شبه الجزيرة إلى روسيا الأم في منتصف الشهر الماضي، فلقد كانت القرم وحتى العام 1954 جزءا من الأراضي الروسية في إطار الاتحاد السوفييتي سابقاً.
إن موافقة الأغلبية الساحقة من شعب القرم على الانضمام الى روسيا، وموافقه الرئيس بوتين بإصدار مرسوم سريع بذلك بعد قرار مجلس الدوما الروسي قد أعاد نقل هذه الجوهرة الاستراتيجية المطلة على البحر الأسود والأبيض الدافئ إلى الأراضي الروسية. ولكنَّ الأمور قد لا تتوقف هنا، فالمناطق الشرقية والجنوبية غير موالية للقيادة الاوكرانية الحالية، وهي تغلي بالتطورات ... الخ.
الولايات المتحدة الأمريكية وأغلب حلفائها الغربيين يطلقون الصيحات ويوجهون سيف العقوبات على روسيا، الجبار القادم الجديد، ولكن منْ يعاقب منْ... ؟!
هل تستطيع الولايات المتحدة ومن يدور بفلكها وهي الغارقة بالديون (17 تريليون دولار ) من معاقبة روسيا التي تختزن في أوروبا لوحدها ما يزيد عن تريليون دولار من الاستثمارات والعقارات، والبنوك، أم بالميزان التجاري الراجح لصالح روسيا، أو هل تستطيع المانيا التي تستهلك %40 من نفطها من روسيا أن تتحول إلى مصادر أخرى، والسؤال الأخير هل تستطيع اوكرانيا (الدولة التي كانت دولة مدللة لدى روسيا) أن تسدد ديونها إلى روسيا بما فيها الأسعار التفضيلية للنفظ والغاز.
نكتب عن الأزمة الاوكرانية، ودائرة الصراع الدولي تتوسع بكل الاتجاهات، فهل نستطيع قراءة المستجدات واستخلاص الدروس، ولماذا تتبدد ثرواتنا الطبيعية، وموقعنا الاستراتيجي وطاقات شعوبنا على أبواب دول قد بدأ يذوي بريقها، وهي غارقة في الديون مثل أمريكا زعيمة معسكر العداء للشعوب وضحياها كثرٌ، ومنها شعوبنا العربية وهي مهددة بإغلاق الطرق أمام تنميتها السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية والروحية.
هناك متغيرات على الجميع قراءتها، معسكرات جديدة تظهر، ومعسكرات تختفي بالتدريج، والدرس الروسي وتحالفات مجموعة البريكس في اسيا وأمريكا اللاتينية، والصين هي مؤشرات على أن هناك ما هو جديد على وجه الكرة الأرضية.