الثلاثاء  26 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"المرأةُ الأمُّ والقمرُ الأُنْثَوِيُّ.. والرَّجلُ الأَبُ والشَّمسُ الذُّكوريَّة "/ بقلم: رائد دحبور.

2016-05-10 11:11:04 AM
رائد دحبور

 

أوَّلُ ما التفَتَ الإنسانُ في حضارات الشَّرق القديم إلى القمرِ وسحرِهِ وأطواره، هلالاً ومن ثمَّ بدراً يُشَعْشِعُ في ظُلمات اللَّيلِ السَّاكن البهيم – وكانتْ حضاراتُ الشرق القديم منذ سبعة آلاف إلى عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، وامتداداً لحضارة العصر الحجري – الَّتي تمتَدُّ إلى حدود مئة ألف سنة قبل الميلاد حسب تقديرات علم الآركولوجي - والَّتي مثَّلَتْ على سواحل المتوسِّطِ في فلسطين وسوريا وفي بلاد الرَّافديْن البؤرة الحضارية والثَّقافيَّة والميثلوجيَّة – الأُسطورة الدِّينيَّة - الأولى ومنها انتشرَت غرباً إلى جزيرة " كريت " في المتوسِّط  وإلى بلاد الإغريق وتمركزت في " دِفْنا " بجانب مدينة أثينا حاليِّاً ثمَّ انتشرت في جنوب أوروبا ووسطها وشمالها قبل أنْ تواصل رحلتها عائدةً حتَّى أواسط آسيا وشرقها وجنوبها ، وقد مثَّلَ القمرُ بشعشعَةِ نورِه السَّاحر مُتخلَّلاً ظُلمات اللَّيلِ دونَ أنء يختلِطَ فيها، ودون أنْ يمحوها تماماً كما تفعلُ الشَّمس في النَّهار، وارتباطه بالفصولِ والخصبِ والعطاءِ في نظرِ تلك الثقافات البدْئيَّة، وبأطواره وأحواله المختلفة من هلالٍ إلى بدرٍ مُكتَمِلٍ ومن ثمُّ إلى هلالٍ فغيابٍ ومن ثمَّ إلى انبثاقٍ من جديدٍ كدالَّةٍ على الزَّمن، وكشبيهٍ صِنْوٍ لرقَّةِ المرأةِ وجمالِ تكوينها وأطوارها وتبدُّلِ مظاهرجسدها بشكلٍ معقَّدٍ لافِتْ عند البلوغ وعند الحَمْلِ، وكذلك بدورَتِها الفسيولوجيَّة – الدَّورة الشَّهرية – التي تشبه دورة القمر في أبراج السَّماء عبر ثمانية وعشرين يوماً من الشَّهر، كمعنىً من معاني القابليَّة المتجدِّدة لإخصابِ بذورِ الحياة وانبثاقِها من جديد.

وقد كان لتأثير هذه النَّظرة إلى القمرِ أنْ اعْتُبِرَ بمثابة - الأمُّ الكبرى – كنظيرٍ للأنثى وعطائها وحيازتها على مكانة الرِّعاية كأمٍّ وأصلٍ لانبثاق الحياةِ من رَحْمِها ورفدِها لاستمرارِ حياة الأطفالِ حيث ترضعهم حليباً سائغاً من ثدْيَيْها، واضِّطلاعِها بأدوارِ الإنتاج الزِّراعي بعدَ زراعة الحنطةِ والبذور وبعدَ الانتقالِ من مرحلة اعتماد الإنسان في غذائه على اصطياد الطَّرائد البرِّية عندما كان يسكن الكهوف، وهي بذلك أمُّ الآلهة الذُّكوريَّة وأصلُ كلِّ شيء.. فكانتْ  " عِشْتَارْ " في ثقافةِ  أوغاريت  وفي ثقافةِ شعوب الشرق القديم و " عناة " في ثقافة الكنعانيين و " اللَّات  والعزَّى ومناة " في ثقافةِ الأنباطِ وقبائل الجزيرة العربيَّة، و " أثينا " في ثقافة الإغريق.

تحكي لنا أحدُ الاساطير اليونانيَّة – وكذلك بعضُ أساطير شعوب الشَّرق –  واصفِةً لنا انتهاء عصر حكم الأمّ الكبرى " عشتار في بابل وأثينا في اليونان " وبالتَّالي انتهاء عهد مملكة النِّساء – الأمازيَّات – حيث كانت تلك المملكة حكراً على النِّساء دون وجود الذُّكور، إذْ كانت نساءُ المملكة ينتقلْنَ إلى المناطق المجوارة لمعاشرة الرِّجال لغاية الإنجاب ومن ثمَّ يعدْنَ إلى مملكتهِنَّ فَيْقْتُلْنَ الذُّكورَ من المواليد ويُبْقِيْنَ على الإناث، كي تبقى مملكتهُنَّ بلا ذكور أو رجال !! وكيفَ أنَّ " حمورابي " في بابل قد تحالَفَ مع الإلهِ الذَّكر " مردوخ " لإنهاءِ سلطةِ الأمُّ الإلهيَّةِ الكبرى الَّتي أنجَبَتْ الآلهة الذُّكور، وكيفَ أنَّ أهالي " دِفْنا " في اليونان قد فاجأهُم انبثاق شجرة زيتونٍ باسقةٍ كبيرَةٍ من العدَم وبجانِبها ينبوع ماءٍ متدفِّقٍ، فذهبوا إلى عرَّفَةِ دِفنا يسألونها فقالت لهم: ابنوا مدينةً في المكان وسمُّوها باسمِ الآلهةِ لأنثويِّةِ والأمِّ الكبرى وباسمٍ أُنثويٍّ هو " أثينا " كي تدومَ سُلْطَتُها، فما كانَ من الرِّجالِ إلَّا أنْ أخضعوا الأمرَ للتصويتِ، وبكونِهِمْ أكثرَ من النِّساءِ في " دِفنا " فقد فازوا بتحويلِ " أثينا " إلى إلهٍ ذَكَرٍ معبودٍ دونَ الأمِّ الكبرى وبتحويلِ الإهتمامِ إلى إله الشَّمسِ رمزِ الذُّكورة عوَضاً عن آلهة القمرِ رمز الأنوثة، وبذا تراجعت مكانة النِّساء واحتلَّ الرَّجُل مكان الأفضليَّة منذ بضعة قرونٍ من الزَّمن قبل الميلاد، وتحوَّل التقويم إلى شمسيٍّ بدلَ أن يكون قمريّ.

ثمَّ جاءَت الدِّيانة اليهوديَّة – وكاستعارَةٍ في كثيرٍ من جوانِبها من ثقافات شعوب الشَّرق الأدنى الكبير – لتؤكِّدَ في سِفْرِ التَّكوين على مكانة الرَّجل فوق المرأة، ولتجعلَ من المرأة جزءً مُشْتقَّاً من ضِلْعِ الرَّجل، بدلَ أنْ كانت أصل الحياة في ثقافات ما قبل تدوين وكتابة التَّاريخ بالأبجديَّة الآراميَّة – لغة كتابة التوراة الأولى الَّتي اعتمدَ عليها المؤرِّخونَ فترةً طويلةً من الزَّمن كمصدَر مكتوب بالابجديَّة لتاريخ الشَّرق القديم، قبلَ حلّ رموز الكتابات الهيلوغرافيَّة والمسماريَّة بحلولِ نهايات القرن السَّابع عشر الميلادي والَّتي أعطتنا صورة مغايرة للرِّوايات التوراتيَّة عن تاريخ الشِّرق – وقد حاولت المسيحيَّة قبل ذلك ومن خلالِ إبرازِ مكانة مريم العذراء - كأمٍّ للمسيح الإله - العودةَ إلى أصولِ تلك الثَّقافات العميقة فيما يتعلَّق بتقديس الأمّ الكونيَّة الكُبرى، وعاءَ الآلهة.

لقد كانت عاطفة وسلطة الأمومة والنَّظرة إلى المرأةِ وإلى مفهوم الأنوثة في ثقافات الأمم القديمة عاطفةً تلقائيَّة أصليَّةً – وهي أساسُ استمرار الحياةِ وخصبها – قبلَ أنْ تتقدَّم عليها سُلطة العاطفة الأبويِّة الَّتي تأتَّتْ نتيجة مفاعيل التربية الأخلاقيَّة ونتيجة مفاعيل الصَّقل الاجتماعي والسُّلطوي عبر التَّاريخ.. وربَّما أنَّ المجتمعات الإنسانية تعود راهناً ومنذ وقتٍ ليسَ بقريب إلى حالةٍ من التوازن تُعطي لمفهوم الأنوثة معانٍ وأبعادٍ غير تلك الَّتي فرضتها مفاعيل النِّزاعات بين الأساطير الميثولوجيَّة قديماً، وربَّما أنَّ سلطة الأديان الكهنوتيَّة قد اضطّرَّتْ مؤخَّراً إلى مُجاراةِ ذلك مُكرَهة.